غدا الثامن عشر من يوليو؛ تكمل أختى، وحبة فؤادي رائعة؛ شهرا كاملا من الغياب، ويمر ثلاثون صباحا على الصباح الأنكي في تاريخي..
لست مغفلا، لأظن أني موقى من الفجائع؛ وأعلم علم اليقين أن الموت فرض محتم.. ومن قبل ما فقدتُ والدتي؛ وأنا غض الإهاب.. لا أعرف للموت معنى..
لكن فجيعتي في الكاملة رائعة، وليس إطلاق هذه الصفة من باب شُحن العاطفة التي تسبغ على الراحلين؛ فرائعة كانت كاملة، لا عيب فيها، أقول لكن فجيعتي في رائعة أكبر من كل الفجائع.
نمت متأخرا بعيد الثالثة صباحا، بعد يوم متعب من العمل مع زملائي الشباب في لائحة نضال المترشحة لانتخابات نقابة الصحفيين، وبعد مطبات كبيرة تعرضنا لها، كنا ليلتها نناقش اسم النقيب المفترض، وكان الدقيق "متفرقا علينا".
لم أغلق هاتفي مطلقا ليلتها، في الصباح الباكر اتصل بي على غير العادة صديقي أحمد ولد الوالد، وسألني عن مكان وجودي.. وأخبرني أنه سيأتيني ليصطحبني إلى اتحاد الأدباء لنفطر سويا..
ذهب ولد الوالد إلي؛ لكن بطارية هاتفي نفدت.. ذهبت إليه في الاتحاد.. لكنه ذهب على جناح السرعة لمهمة عاجلة.. وتركني وحيدا في الاتحاد.. انتظر قدوم ابراهيم ليعد لي الشاي.. فتحت كمبيوتري، وواصلت عملي فيما يتعلق بلائحة نضال.. فجأة مر على شاشة الكمبيوتر إشعار من الفيسبوك هذا نصه :
حدث التاه الواثق حالته : رحموا على أختي العزيزة رائعة بنت أحمدو ولد محمد عبد الله ولد الواثق.. فركت عيني؛ وقلت :
بالتأكيد لا يتحدث عن رائعة؛ فهي لا تعاني من أي مرض.. وهاتفي كان مفتوحا البارحة؛ ولم يغلق إلا قبل أقل من نصف ساعة أعدت الضغط على الحالة؛ بعد أن استعذت بالله من الشيطان الرجيم.. وشرقت بالدمع.. حتى كاد يشرق بي.. كلا بل مادت بي الأرض كل مميد.. كلا.. لا أستطيع مهما أوتيت من براعة وبلاغة توصيف ما حصل لي..
تركت الكمبيوتر على حاله.. وخرجت لا ألوي على شيء؛ بعد أن أوصيت صاحب الحانوت المجاور أن يغلق مقر الاتحاد.. على طرف الشارع كنت أبكي؛ وأشير إلى السيارات بالتوقف؛ فجأة صوت أحدهم يناديني : محمد ناجي انت امالك؟..
كان إبراهيم بواب الاتحاد وأخي الذي لم تلده أمي.. لا أعرف كيف لخصت له الخبر.. فقد كنت لا أعي ما أقول.. ولا أعي شيئا بالمطلق.. عانقني.. وقال :
عد معي إلى الاتحاد لأغلق أبوابه، وأذهب معك..
قلت له أنَ عجلان.. ودعتك لله؛
قال لي بصرامة : والله ما يفتصل سوادي امع سوادك..
وأمسكني وذهب بي وأغلق الباب..
وسرنا إلى المقبرة.. كانت رحلة طويلة رغم أن سائق التاكسي حاول الإسراع جهده.. في التاكسي أخذت هاتف السائق.. واتصلتُ على أخي الأمين وأختي منى.. كنت في حالة يرثي لها.. رغم أنني أنا هو الأكبر ( يا بره).. أخبراني أنهما ووالدي والوالد بباه والخالة جدل في مستشفى الصداقة في انتظار تسليم شهادة الوفاة..
أمام المقبرة لم أفقد أحدا من شيوخ ولا شباب ولا نساء أهل بيتي الموجودين في العاصمة.. ولا ممن "يعيطون عيطتهم"؛ فقد سرى الخبر كالصاعقة في الجميع.. ليس حزنا واحدا.. هو قبيلة من الأحزان..
حاولت أن أكون رجلا.. وأنا أصافح الرجال الذين هبوا واقفين لاحتضاني.. وتعزيتي..
ارتميت في حضن عمي محمدُ سالم وذرفتها دموعا سخية.. كاد الشيخ على وقاره أن يستسلم للبكاء.. أشاح عني وجهه.. وضمني إليه وقال لي كن رجلا.. ولكن كيف بالله عليكم.. عدت إلى مستشفى الصداقة لأصاحب الجثمان في رحلته إلى المقبرة.. وعن جنبها جلست، وفي الجانب الآخر جلس والدي.. حاولت أن لا تند مني زفرة ولا تسيل مني دمعة قربه.. فأنا أعلم كم هو مصاب في البنت البارة الطيبة المخبتة المنيبة.. على تمام الثانية والربع وصلت جدتنا التي كانت لنا ولرائعة بالأخص الأم بعد رحيل الأم؛ والتي ما كانت لتغيب عن الإشراف على جنازة بنتها.. لقد قطعت رحلة طويلة منذ أن سمعت الخبر المفجع..
في بيت الغسل كشفت وجه أختى رائعة.. كان نضرا.. وابتسامة حيية تتلألؤ على محياها.. كدت أقسم أنها حية رغم ست ساعات مرت على وفاتها.. رحم الله رائعة.. التي رحلت بدون أي صخب.. على حين غرة..
رحلت دون أن تصاب بأي مرض.. كان مماتها كنومها.. رحم الله سنيها الأربع والعشرين.. وجمعنا بها في مستقر رحمته بجوار الأنبياء والصالحين؛ وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..
مما يزيد حزني على رائعة.. أنني وأنا الذي صاحبتها منذ مولدها.. وعرفتها صبية فمراهقة فأمرأة أم عيال، لا اذكر في يوم واحد من أيام الدنيا أنها تصرفت أي تصرف لا ينبغي.. والله على ما أقول وكيل..
كانت رائعة خِلوا من السلبيات.. حياتها إيجابيات كلها.. رحمها الله رحمة واسعة..
متعني الله وإياكم بآبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا.. وحفظ الله حبتيْ فؤادي : الشفاء وإيمان.. فإن لهما أما لا كالأمهات..
أعزائي الكرام لا تنسوها من الدعاء في رمضان.. ولا في غير رمضان..