و هل يكون استرجاع القيم بالشعر الرخيص المتملق الذي يقبض ثمنه على مائدة الإلقاء و بمحاضرات لا ترقى بمحتوياتها المبتذلة إلى مرامي المبتغى المداوي في سياق مصاب ضياع القيم المخل و انفراط عقد الأخلاق الناظم و تحلل و تلف خيوط النسيج الاجتماعي لكل مكونات الأمة؟
و هل يكون أيضا بابتذال مسرح سقيم و تمثيل وضيع و نص ضعيف مهزوز مذموم و خشبة تفتقر إلى أدنى مقومات أبي الفنون و أقوى أسباب تطور الأمم الراقية؟
و هل هو عملية ذر الرماد في العيون و الإعلان على حين غرة ,
إن إحياء التراث القيمي هو استنطاق التراث الأخلاقي لتحرير عقد اجتماعي يعتمد ويتأسس على مجموعة من القيم الأخلاقية الأكثر تجذرا في المجتمع وفي مقدمتها تلك التي تستمد معانيها من التراث الإسلامي، و هو نص على صدق تأويله وإيجازه إلا أنه يجتزئ بل لا يكاد يجعلها المنطلق و الهدف الأول، مراحل الضياع و أسباب السقوط إلى مستنقع اللا أخلاق و الانجراف إلى مزالق التجرد من القيم و الخروج من دائرة التحصين بالدين و مسطرته الأخلاقية الوضاءة باتجاه مستنقع التجرد من ثوابته الرفيعة و أخلاقه المثلى إلى القيم المادية التي لا تحفظ للعهود قدرها و لا ترعى للضوابط الشرعية و القانونية منعتها و منزلتها العالية و لا تعير للمحذورات الاجتماعية و العرفية اعتبارها و مراتبها.
إنهم أهل هذا البلد يغوصون رويدا رويدا في جاهلية مفاهيم الماضي من خلال انتكاسة نهضوية كانت قد قامت عند النشأة كالأعجوبة على الرغم من كل القيود الاجتماعية الموغلة في القدم، و ثقافية تحدت المسافات الشاسعة الفاصلة بين الوعي المدني الوضاء و إكراهات البداوة الغارقة في ظلام التخلف، و فكرية أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تجافي منطق ذاك التحول الذي عرفته الدولة الوليدة منذ الاستقلال و الإعلان عن الحرب على الإقطاعية و التراتبية، و إنها تخالف منطق العقل السليم الذي يصاحب تلقائيا مضامين التحول و يترجمها إلى أفعال بناءة و أحاسيس نبيلة تنقل إلى المكان الصحيح في الزمن المخلص من عقد التخلف بكل معانيه و أبعاده. تحول كاد يخلق استثناء في الصحراء الكبرى لولا جفاف حاد دام عقودا و حرب ضروس جاءت كأنها لعنة حاكتها الأقدار.
لقد تغيرت وجهة المسار و انتصرت إرادة الجمود التي لم ترحب يوما بتباشير التحول و لم تستسغ مطلقا بواعث الحراك إلى الانعتاق من سجن استبداده. إرادة جمود لم تفوت هي كذلك فرصة الانقضاض و الرجوع بالأمور إلى مربعها الأول. خمسة و خمسون عاما حملت في طياتها :
· تشوهات الجفاف البارزة على الأديم بتفاصيل نفوق الماشية و الهجرة إلى العاصمة و انتشار الأمية و البطالة،
· و في السلوك العام من خلال التحرر السريع من قيود مسطرة القيم المانعة من السقوط في أدران المحظورات الشرعية و من التحلل من الأخلاقيات الناهية عن استسهال ذبل بموانع السعي الشريف و الزق الحلال.
· و آثار جراحات حرب الصحراء الضروس الغائرة في الجسم النحيف و الملقية بكل ظلال ارتكاس مرير على مسار بدأ بالعزم على بناء بلد له خصوصياته و ميزاته و انتهى بسلسلة من الانقلابات العسكرية تخللتها هزات بمضامين مختلفة ألقت هي كذلك على المسألة الوطنية بأثقال ما زالت تنوء بها رغم غلبة صمت العواصف على هوجها.
· و الندوب العميقة في النفسيات كرست النفاق و التزلف التملق و الغدر و الكسل و الخمول و استساغة السهل في ضياع غير مسبوق لقليل الأخلاق و نادر القيم الذي حفظه حضور الدين. ندوب مزقت النسيج و كرست من جديد جاهلية عقلية "السيبة" فـ :
· عادت القبلية بأشد و أسوأ مما كان عليه الحال و قد اتخذت شكلا كرس، بداخل وحدتها التقليدية و بنيتها الأساسية التي كانت قائمة، الظلمَ و الغبنَ ليرتفع على رأسها الأغنياء من أفرادها دون أهل الشهامة و الحكمة و ليضيع الترتيب العمري و النوعي،
· و تأصلت عمليا، رغم ارتفاع الأصوات و وتيرة قوة النضال و المطالبات، الطبقية و النظرة الدونية و الازدراء و الإقصاء و الغبن.
· و اشتدت غلبة حب المال و الكسب بكل الطرق حتى بات نهب المال العام من علامات الفروسية و مطية إلى النبل و الرفعة و المهابة.
· و انتشرت العادات السيئة و الممارسات الوضيعة و الأعمال المخلة بمنهج الدين القويم و بالمنظومة الأخلاقية.
و ما التباين الماثل بين العيان بملء سفوره و شدة ظلمه إلا انعكاسا لا غبار عليه لهذه الحالة التي كرسها الانحراف عما كان موجودا من ينابيع التراث القيمي رغم هفواته و علاته كما أسلفنا تحت وطأة و قوة الحق الذي لا تغطيه حجب المراء و لا أستار النفاق الاجتماعي و لا التملق السياسي و لا سطوة الظلم بقوة عقلية "السيبة" و إملاءاتها.
هو الواقع الذي وضع الدولة، منذ النشأة و على مر خمس و خمسين عاما من الاستقلال و امتلاك القرار، في مأزق التخلف و أعاق الحركة التنموية على خلفية هدر غير مسبوق لمقدراتها الهائلة و تنوعها النادر و طاقات بعض أبنائها الهائلة في كل التخصصات و شتى المجالات.
و هو الواقع الذي لا سبيل إلى معالجته إلا أن تسعى الدولة بجهد استثنائي و قفز جريئ على كل الاعتبارات السائدة إلى ترسيخ مفهوم دولة المواطنة. و هو المفهوم و المنهج الذين لم يعودا يتطلبان لاعتمادهما و سلك فجاجه المستقيمة تنظيرا إذ الأمثلة التي نجحت به أصبحت ديدن بقية دول العالم من مثل البلد و توجهه الأوحد بآلية منطق العصر و علميتها العالية.