قمت بأخذ حمام بارد في تلك الليلة الصيفية ثم جلست مع الدواة والقرطاس وبدأت خيوط المعاني والأفكار والأسلوب ومناهج التحليل البحثي تتصارع في مخيلتي وترتسم نتائج ذلك الصراع على جدار ذاكرة طمرتها معارف شتى وغذتها تجارب ميدانية في مدرسة الحياة وحكايات من تجارب نابعة من فيض زلال أساتذة كرام.
كنت أفكر في أصعب جملة وهي المتعلقة بافتتاح تقديم العرض..وبعد تفكيرمعمق جاءت الشباك بصيد وفير.
كتبت عرضا أبرز صفاته الاختصار والدقة والتشويق والاجابة على أسئلة علمية ومنهجية وجيوستراتيجية متوقعة من طرف لجنة النقاش التي كانت عبارة عن ثلاثة أساتذة خبروا مجال الصحافة المكتوبة والعلوم السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا ،وعلى دراية واسعة بفنون النقاش ومنعرجات الأسئلة وخيوط لعبة المناهج(الدكتور محمد الأمين عواسة والدكتورة حميده البور والدكتورة سلوى الشرفي المشرفة).
وضعت العرض بجانبي والقيت جسمي المنهك على الفراش على أستريح في الهزيع الأخير من الليل.
في السادسة صباحا استيقظت وأخذت حماما وصليت الصبح وبدأت في تجهيز نفسي بالأناقة المطلوبة "ليوم الزينة وساعة الحسم".خرجت من السكن الى الشارع وحيدا كما يجب ان اواجه مصيري تماما وأوقفت سيارة أجرة حملتني الى المعهد وكان في مقدمة المستقبيلين الزملاء المسؤولون عن تنظيم حفلة التخرج حيث كانوا يضعون اللمسات الأخيرة على حفل الاستقبال.
كانت اللجنة قد حددت "ساعة الحسم" ب9:00 صباحا وماهي الا دقائق بعد وصولي حتى بدأ الجمهوريأخذ مكانه في قاعة النقاش وهو عزيز على نفسي كثيرا ويصعب تقييم قيمته لاعتبارت كثيرة، ترجع للمكانة العلمية والزمالة خلال سنوات خلت في قاعات الدرس وتبادل التجارب حيث أنه من دول وجنسيات تمثل بلدانا مختلفة يأتي ليشهد على مكانة طالب من "بلاد شنقيط" ابتسم له الحظ بعد سنوات عجاف ليخرج من عنق الزجاجة، ويكون حامل لواء سمعة الوطن هذه السنة بتلك المؤسسة الأكاديمية الاعلامية العريقة.
ضم الجمهورلفيفا من الزملاء ومن تونس والجزائر والمغرب وفلسطين والأردن والعراق ومن جنسيات أخرى كالسنيغال ومالي وكوت ديفوار،وطبعا بما أن فرصة حضور العائلة وأصدقاء الطفولة الموريتانيين لم تكن الظروف سانحة بها فقد حاول زملاء موريتانيون كرام تعويض بعض ذلك النقص.
في التاسعة الا 10 دقائق كان يسود القاعة هدوء شديد بعد دخول لجنة النقاش وماهي الا دقائق قليلة حتى أغلق الباب نهائيا ودخلنا في "ساعة الحسم".
شكرت الأستاذة زملاءها وطلبت مني تقديم الرسالة ،وبعد ذلك بدأ النقاش وكان اكاديميا وحميميا وذا لغة علمية راقية ورؤية موضوعية وطرح وطرح مضاد مع التحلي بماينبغي من صفات التواضع للطالب الجامعي.
لم يستغرق النقاش الا 45 دقيقة كانت كافية لسبر أغوار الموضوع وإدراك ان طالب الغربة قدم عملا أكاديميا يستحق المكافأة,وبعد تشاور بين الأساتذة طلبت اللجنة إخلاء القاعة للقيام بالمداولات المطلوبة لحسم النتيجة.
10 دقائق كانت على بمثابة حين من الدهر وإذا بالفرج القريب من الله حيث فتح باب القاعة من طرف الدكتورة المشرفة وكانت أسارير وجهها متهللة مما أوحى لي بان وراء الأكمة خبر سار.أخذ الجميع مقاعدهم وعادت لحظات الهدوء المشوب بالحزر والترقب من جديد وكان الجميع معنيون في مستقبلهم بنتيجة النقاش.
بعد دقائق من حبس الأنفاس وقفت الأستاذة المشرفة وأعضاء اللجنة وتلت البيانا التالي :" في يوم 25 يونيو وعلى تمام الساعة 9:00 قامت اللجنة المؤلفة من ... بنقاش رسالة الطالب الموريطاني فلان بن فلان وبعد مداولات اللجنة اكدت قبول العمل وتقييمه بدرجة جيد مع إسناد16 للطالب الموريطاني والف مبروك له على التخرج".
ضجت القاعة بالتصفيق وبدأت لمسات فرح وعناق حار بيني والزملاء تقديرا وتثمينا ومباركة على المجهودات والتحلي بالصبر حتى الوصول لتلك اللحظة الفارقة في حياة اي طالب بالغربة على وجه الخصوص.
عشت لحظات مثلت لي ميلادا جديدا وكنت كاني في حلم جميل لا أريد ان أستقيظ حتى لاينقطع.
بعد نصف ساعة كان علي ان أعود لعالم الواقع واخرج من ....
بقلم :محمد ولد محمد الأمين (نافع)
ملاحظة :
للتعليق والملاحظات :
oulnafaa.mohamed@gmail.com
هذه المذكرات واقعية نشرت جامعة " جورج تاون" الأمريكية مقتطفات منها في بعض كتبها المدرسية المترجمة باللغة الانجليزية التي تدرس بغالبية جامعات العالم(راجع الحلقات السابقة بالموقع (زاوية رأي).