زعيم المعارضة مرشح لرئاسيات يونيو المقبلة :|: دعوة لتعزيزالتضامن مع العمال الأكثر هشاشة :|: رئاسيات يونيو : "تواصل"يحسم مرشحه مساء اليوم :|: محادثات موريتانية - سودانية :|: إلغاء زيادة الرسوم الجمركية على الخضروات المغربية :|: الوزير يتسلم العرائض المطلبية للعمال :|: في عيد الشغيلة : مسيرات عملية تطلب برفع الأجور وخفض الأسعار :|: من يوميات طالب في الغربة(6) :نزهة في "أريانة" مع ضيافة موريتانية أصيلة :|: خبيرعالمي : أسبوع مثيربانتظار الاقتصاد العالمي :|: امنعوا أطفالكم عن الهواتف قبل 13 عاماً.. لماذا؟ ! :|:
أخبار
اقتصاد
تحقيقات وتقارير
مقابلات
منوعات
الرأي
مواقع

الأكثر قراءة

حديث عن تعديل وزاري وشيك بعد العيد
استعادة عافية الجنوب تعززعلاقة الأشقاء/ عبد الله حرمة الله
متى يكون أكل البطيخ مميتا.. ؟ !!
تعدين الجبس وتجارته الدولية/ اسلك ولد احمد ازيد بيه
طائرة أميركية تقطع رحلتها .. والسبب غريب !!
الكودالوجيا وصناعة التأثير/ المصطفى ولد البو كاتب صحفي
تصريح "مثير" للنائب بيرام اعبيدي
AFP : موريتانيا أرسلت أدلة على مقتل مواطنيها لمالي
أصغر دولة في العالم يسكنها 25 نسمة فقط !!
تحديث جديد على "واتساب" يثير غضب المستخدمين !
 
 
 
 

ولد بلال و ولد محمد موسى في حوار "حكومة المنفى" و "دبلوماسيي المنفى الداخلي"

mercredi 29 septembre 2010


بقلم : محمد الأمين ولد أبتي مستشار أول في وزارة الشؤون الخارجية والتعاون

عندما بدأت الكتابة منذ شهور حول هذه الإشكاليات كان الهدف الذي رسمته لنفسي بسيطا جدا، إنه كسر طوق الصمت المفروض حول هموم ومشكلات الدبلوماسية والدبلوماسيين في موريتانيا. إنه تقويم الأمور على هذا الصعيد على نحو يجعل هموم القطاع الدبلوماسي تحظى بما تحظى به هموم القطاعات الوزارية من تناول لدى إرادة الإصلاح السياسي لرئيس الجمهورية وحكومته، ومداولة في اجتماعات نواب الشعب وطرق على صفحات الصحف والمواقع الإلكترونية وفي برامج الإذاعة والتلفزيون، و ظهور على لائحة الموضوعات التي يتجاذب حولها الموريتانيون أطراف الحديث وهم يحتسون كؤوس شايهم المنعنع.

الدبلوماسية الخرساء

وإذ أدركت منذ البداية بعد منال ما أطلب بادرت إلى تخصيص مساحة معتبرة مما كتبته للدفاع عن شرعية الطريق التي اخترت. وأمام إدراكي بأن المحيطين لن يمكنهم بأي حال استساغة جعل الشأن الدبلوماسي موضوعا من موضوعات الكتابة والمناقشة المفتوحتين للجمهور قلت لهم ألستم ترون في هذا الخيار حماقة، اسمحوا لي إذن باسم حق الحرية والحق في الاختلاف بارتكاب هذه الحماقة، و نحت لهم معنى جديدا في دائرة الحقوق الفردية هو "حق ارتكاب الحماقات". و تنازلت مناورة تحت كثافة احتجاجات البعض - الملفوفة أحيانا بثوب النصيحة و الدعوة إلى التعقل - إلى وصف ذلك في آخر مقالاتي ب "جنون الكتابة".

***

كل تلك الحيل والألاعيب الكلامية إنما هي محاولات للهروب من مواجهة حقيقة أن مساحات النشر والحوار حول "المعيش الدبلوماسي الموريتاني" معدومة، في هوامش عقلنا المشترك. فالناس في هذه البلاد و هذه الوزارة جاهزون لتبادل الدروس والخطب حول كل الجوانب النظرية من العلوم السياسية والقانونية المرتبطة بالمجال الدبلوماسي، لكنهم يرفضون رفضا قاطعا تناول واقع الدبلوماسية الموريتانية بالوصف أو التحليل أو النقد.

حتى شعبة الدبلوماسية التي فتحت منذ سنوات، وخرجت دفعة وهي تعد الدفعة الموالية للتخرج قريبا، لا يجد الطالب فيها معلومات حقيقية عن الدبلوماسية الموريتانية. أعرف بالطبع أن العميد والدبلوماسي الكبير التقي ولد سيدي يقدم درسا بعنوان "الدبلوماسية الموريتانية"، وهو درس شيق ورائع كان لي الشرف بحضوره أثناء فترة تدريبنا لمدة 4 أشهر في شعبة الدبلوماسية. لكن انتبهوا فإن فطنة الرجل وذكاءه ومعرفته بواقع الحال في وزارة الخارجية وفي البلاد عموما، تدفعه في كل مرة إلى التوقف - وهو يتحدث عن إنجازات وتقاليد الدبلوماسية الموريتانية - عند لحظة 10 يوليو 1978.

ورغم أن الرجل بعد أن عمل مع المختار ولد داداه كواحد من اقرب مستشاريه ومرافقيه في جولاته الدبلوماسية، عمل سفيرا لموريتانيا في الفترات اللاحقة في معظم البلدان التي تربطنا بها علاقات إستراتيجية بما في ذلك فترات من حكم ولد الطايع، ولكنه لا يحدثك عن هذه الفترات إلا بنتف من الذكريات العابرة، وهذا ما يجعل درسه أقرب إلى تاريخ الدبلوماسية الموريتانية منه إلى درس عملي واقعي حول آليات العمل والخيارات الإستراتيجية لهذه الدبلوماسية. والأمر مفهوم تماما، فليس الأستاذ – السفير التقي ولد سيدي هو الملزم بعد أن انتقل إلى المعاش بخرق أهم محرمات الدبلوماسية الموريتانية وهو الصمت الكامل تجاه واقعها.

لاحظ مثلا كيف أنه حتى فترة التدريب التي يقضيها الطلبة / الدبلوماسيون في وزارة الخارجية،لا تتاح لهؤلاء الدبلوماسيين رؤية إلا أقل القليل من العمل الذي يجري في الإدارة المركزية أما البعثات في الخارج فلا مجال لزيارتها أصلا. ثم إن منهج التدريب ينظم بحيث يفصل الطلبة / الدبلوماسيين عن مؤطريهم، ولا يسمح لهم أثناء التدريب بأية فرص لتحليل أو تقويم ونقد الممارسة التي يرونها أمامهم، ويقال لهم بلسان الحال - و بلسان المقال إذا استدعى الأمر- أنتم هنا ضيوف "صم، بكم، عمي" طالما أنتم هنا، وأما التنظير والمحاضرات فانتظروا بها عودتكم إلى قاعات الدرس بالمدرسة الوطنية للإدارة.

ويبدو أن التوجه هو نحو التعمق والتشدد في هذا النهج، فقد وصلت في الأسبوع الماضي إلى الوزارة دفعة الـ 60 طالبا / دبلوماسيا الذين هم قيد التكوين في المدرسة الوطنية للإدارة بطلب من إدارة المدرسة، لمنحهم فرصة تدريب ثانية، وحسبت في الأول بأنها ستكون فرصتهم للذهاب نحو بعض دول الجوار على الأقل لرؤية ما يجري واقعيا في السفارات والقنصليات الموريتانية هناك، حتى فوجئت بأن فرصتهم لمشاهدة ما يجري في المكاتب المركزية هي ذاتها سيتم تقليصها بشكل كبير.

لقد قرر القائمون على الوزارة أن تفتح للمتدربين قاعة الاجتماعات بالديوان وتحول لهم إلى قسم كبير، يجلسون هم فيه تماما كعادتهم في المدرسة الإدارية – على مقاعد الدرس – ويتبادل مديرو الوزارة وأساتذتهم هم على مقاعد التدريس. وهذا المشهد وهذا الحال وفقا للقراءة التي توصلت إليها إنما هو رسالة من وزارة الخارجية بأن كل أمل بإمكانية وجود درس تحليلي حول الممارسة الدبلوماسية العملية في موريتانيا يجب طرحه جانبا.

منتسبون جدد وحلم يتحقق :

مجموعة القراء التي وجدت هامشا من الوقت لمتابعة ما كتبته حول أزمة الدبلوماسيين المهنيين مع وزارتهم يعرفون أنني واظبت منذ "الكتاب الأبيض حول التعيينات الدبلوماسية ليوم 12 إبريل" على إصدار دراسة أو مقال كل شهر.

و إثر الإحساس القوي بالعزلة والتحليق بعيدا عن "السرب" قلت في مقالي الأخير ضمن فقرة بعنوان "الكتابة بعد ألف ليلة من الصمت" إنني لم ألجأ إلى "الكتابة" كوسيلة لطرح هذه المشكلة والعمل على حلها إلا بعد أن استنفدت كل السبل الأخرى، وأن الكتابة للمنصف ليست خيارا سيئا في النظم الديمقراطية الجمهورية. وأنه إذا كان الوزراء ورؤساء الحكومات والسفراء أنفسهم يمسكون القلم ويكتبون في مختلف الديمقراطيات العصرية فكيف لا تتاح الكتابة لموظفين دبلوماسيين ليس لهم أي غطاء نقابي ولا إطار إداري للتفاوض مع إدارتهم.

***

وكم أنا فرح اليوم بمناسبة ظهور ثلاث مقالات رصينة لكتاب من الدرجة الأولى تتناول جوانب حساسة ومركزية في "المعيش الدبلوماسي الموريتاني"، الذي كنت أستشرف دخوله إلى عالم الحوار العمومي في موريتانيا في منظور أفق بعيد.

المقال الأول لواحد من الكتاب الصحفيين لموقع "أمجاد" الالكتروني لم ينشر اسمه بعنوان "وزراء ولد الطايع بالأمس سفراء ولد عبد العزيز اليوم – أو حكومة في المنفى "

والمقال الثاني بقلم سفيرنا في قطر ووزير خارجيتنا الأسبق محمد فال ولد بلال بعنوان "عندما يكون الولاء للوطن

– سفراء لموريتانيا ووزراء سابقون لها" وهو تعقيب على المقال الأول.

أما المقال الثالث فهو بقلم مستشار الشؤون الخارجية – الملحق بإدارة الاتصال بوزارة الخارجية، السالك ولد محمد موسى بعنوان : "متى تندمج وزارة الخارجية في البرنامج الرئاسي لمحاربة الفساد".

أنا فرح والليلة عيد، فها هو صحفي موريتاني يحول ظاهرة في دبلوماسية بلده إلى سبق صحفي من النوع النادر، وها هو سفير – وزير خارجية سابق يترجل ويتنازل ليعقب على مقال كتبه صحفي لم ينشر اسمه. ثم ها هو واحد من نخبة الدبلوماسيين المهنيين يكتب مقالا ذا طبيعة نقدية لاذعة حول الفساد الإداري في وزارته، واصفا إياها بأنها "واحد من أكبر قلاع الفساد" في البلاد.

هل ما تزالون مصرين على اعتبار الجهد الذي أقوم به حماقة، أو جنونا، إذا أصررتم على ذلك هذه المرة فثقوا أني أحمق ومجنون سعيد بتلك الصفات ما دامت تجمع معي "محمدفال ولد بلال" و "السالك ولد محمد موسى" و "واحدا من كتاب موقع آمجاد" العتيد.

واحتفالا بالمناسبة واحتفاء بالمنتسبين الجدد إلى حزب "الدبلوماسية الناطقة" أو "الدبلوماسية غير الخرساء"، سأشرف نفسي بالكتابة مجددا. وسأكتب اليوم لا بمناسبة الحديث عما سميته في مقال سابق بـ "عصر الصمت المذل للسلك الدبلوماسي"، و إنما بمناسبة الكتابة عن الكتابة أو "الكلام على الكلام"، الذي قال عنه "أبو حيان التوحيدي" بأنه صعب.

سأحتفل هذه المرة بالكتابة في المكان الذي يناسب أمثالي، وهو موقع الشراح والمعلقين والأتباع، لا موقع المبدعين والرواد وصانعي الأحداث، الذي يبدو أن الظروف القاهرة في الشهور الماضية قد ألزمتني بالتظاهر فيه، من باب استحالة "فرض الكفاية إلى فرض عين" يوم لم يوجد من يقوم به.

موريتانيا جديدة بالوجوه القديمة :

مقال "حكومة المنفي" غير موقع لكنه يكفيه مجدا – وهو الصادر عن موقع "أمجاد" الذي يديره الشاعر والصحفي والأديب اللامع سيدي ولد الأمجاد – أنه حتى بدون توقيع ملأ الدنيا وشغل الناس. السبب بسيط هو أن هذا المقال ينطوي على نوع من السبق الصحفي والطرافة يندر مثلها في المواد المنشورة في صحافتنا الوطنية. و ذلك رغم أن صاحب المقال لا يزيد على عرض مجموعة من الحقائق والوقائع الماثلة للعيان، مصحوبة بسؤال واحد يفرع منه تساؤلات قليلة و الكل حول تلك الوقائع.

ومختصر ما عرضه صاحب المقال هو أن الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع قد غادر المشهد السياسي الموريتاني وحده، أما رجاله فقد بقوا هنا، وأنهم اليوم يمثلون النخبة بين سفراء الرئيس محمد ولد عبد العزيز، قائد التغيير الذي أطاح بنظام حكم ولد الطايع. يقول الكاتب عن الرجل : "هناك الآن ما يناهز عدد أعضاء حكومته سفراء لموريتانيا الجديدة في أغلب الدول العربية والأجنبية الأخرى (...) أبرزهم كانوا معه حتى يوم سقوطه الأخير.. حتى أن بالإمكان وصف جماعة الوزراء – السفراء هذه بـ "حكومة موريتانية في المنفى".

وبعد ذلك سرد أسماء المعنيين واحدا واحدا، محددا الدول التي يقودون فيها البعثات الدبلوماسية الموريتانية اليوم والمناصب الوزارية التي شغلوها في حكومات ولد الطايع، حتى وصل العدد إلى 15 سفيرا اليوم – وزيرا بالأمس، منهم اثنان من رؤساء حكومات ولد الطايع مع آخر أمين عام لحزبه وآخر وزير خارجية معه.

ويا لها من مفارقة أو يا له من لغز محير ويا له من تساؤل مشروع : هل نحن - إزاء هذا العدد الكبير من وزراء "موريتانيا بالأمس" الذي اتفقنا على وصفه بأنه أمس الفساد والمفسدين -أم أمام موريتانيا جديدة وأمام يوم مختلف عن أمسه وحاضر يقطع مع ذلك الماضي؟ هل نحن نعيش حربا حقيقية على الفساد إذا كانت "بارونات" عهد الفساد "ورموزه" هم أنفسهم من يظهرون في الصف الأول من مواقع الحكم والنفوذ؟

***

وبخصوص "علاقة التناص" التي أسعى إلى اكتشافها بين المقالات الثلاث موضوع هذه القراءة، يمكن اعتبار مقال "حكومة في المنفى" بمثابة عرض للإشكالية مع إضاءة بسيطة حولها، أما المقالان الآخران فهما يتبنيان معا حرب الفساد "التي أعلنها رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز لكن كلا منهما يقدم قراءة مختلفة لهذه الحرب ويقترح لها أولويات مختلفة عن الآخر، لدرجة يمكن معها القول بأن الكاتبين يقدمان بهذا الخصوص أطروحتين شبه متضادتين.

أطروحة سعادة السفير محمد فال ولد بلال تقوم على ضرورة ترشيد هذه الحركة و الحد من اتجاه التطرف والقطيعة المطلقة مع الماضي الذي يمكن أن يهيمن فيها. أطروحته تدعو إلى بناء موريتانيا جديدة دون إقصاء الجيل الذي كان متحكما في "موريتانيا القديمة"، هي تبني الإصلاح والتغيير دون القطيعة الكاملة مع ما سبق.

يقول محمد فال ولد بلال وهو ينتقد خط الذين يرتمون في أحضان "حركة محاربة الفساد محاولين الانحراف بها عن خطها أو غير واعين بحقيقة دلال كلمة الفساد : « منذ أن تبنى الرئيس محمد ولد عبد العزيز خطابا مضادا للفساد والمفسدين، ووضع محاربة الفساد على رأس أجندة العمل الحكومي. بدأ التنافس للقفز في عربة الشفافية والنظافة والنزاهة على أكثر من صعيد. وأصبحت كلمة "الفساد" هي العنوان العريض على صفحات المواقع والصحف الوطنية ... وحيث يمم المرء يراها منتصبة أمامه ».

الرجل يشعر بانزعاج من المبالغة والإكثار في ترديد كلمة الفساد و يجد في بعض ذلك ثرثرة وسخافة، يقول : "وفي السياق قرأت كما هائلا من المقالات والتعليقات التي تناولت الفساد بالنقد والتحليل، ووجدت فيها الكثير من المتعة والطرافة والحقائق تارة، وأنواعا دون ذلك من الألعاب الإعلامية والمواضيع الخائبة تارة أخرى".

***

أما أطروحة المستشار السالك ولد محمد موسى فإنها تقوم على الدعوة إلى الصعود بحركة التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد التي يقودها الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى النتائج القصوى لها، وعلى أن تكون شاملة لا مطففة ولا مجزأة. و باستخدامه عبارات مثل "تطهير الإدارة" تشعر أن ما يريحه لا يمكن أن يقل عن إبعاد الرجال الذين كانوا رموز الفساد الإداري في موريتانيا الأمس تماما كما يطالب بالقطيعة التامة مع الممارسات المنتمية إلى ذلك العهد.

ويبدو من منطلقات وخلاصات ولد محمد موسى أن "حركة محاربة الفساد" التي أعلنها ولد عبد العزيز – وفقا لفهمه هو لروحها – ركزت على جزء من الفساد وأن الوقت قد حان لخوض الحرب على جميع الجبهات سيما على الجبهة الأهم في نظره، وهي جبهة تنقلية أشخاص الإدارة، وإصلاح نظام التعيينات فيها.

يقول : "منذ تولي السيد محمد ولد عبد العزيز رئاسة الجمهورية، أعلنت حرب بدون هوادة على الفساد والمفسدين، لكن التحليل الذي تم الانطلاق منه في المراحل الأولى من هذه الحرب قام على منح الأولوية لمحاربة النوع الأكثر استعجالا وهو الفساد المالي، بينما لم ينل توأمه الحميم، الفساد الإداري نفس المستوى من التركيز ضمن الإجراءات الحكومية".

وزير- سفير في الفكر مع السياسة :

سيتهمني بعض قراء هذا المقال بالتهويل في إعطائي كل هذا القدر من الاهتمام والتحليل لمقالات عابرة من مثل هذه الكتابات الكثيرة التي لا تظهر في الصحافة إلا كوميض البرق قبل أن يفسح لها النسيان مكانا في ذاكرته المضيافة. والبعض الآخر سيتهمني بسوء النية وسيقول إن الأمر يتعلق بواحدة من تكتيكات وألاعيب محمد الأمين ولد أبتي المكشوفة لتمرير خطابه في سياق الحرب على وزارته.

على رسلكم تعالوا وتفحصوا معي جيدا ملفي الكاتبين، وعندها ستدركون كم أنا بعيد من إضاعة وقتكم بالاستماع إلى ثرثرة، أو إتعابكم بشد أعصاب وعضلات الأعناق والأرجل تطلعا لرؤية قادمين نكرات.

***

وإذا بدأت مع سعادة السفيرمحمد فال ولد بلال فلا بد أن أوضح أننا لسنا أمام مجرد سفير أو وزير سابق، وإلا فكيف تفسرون سكوت 14 سفيرا تحدث عنهم مقال "حكومة في المنفى" من بين 15، ليكتب واحد فقط إذا لم تكن لهذا الواحد ميزاته الخاصة.

"ولد بلال" هو واحد من القلة من وزراء حكومات العسكر الذين عاشوا تجربة سياسية وعلمية قبل يعينوا مدراء أو وزراء. و هو ليس من ذلك الكشكول من الوزراء الذين حرقوا المراحل جميعها عندما التقطهم ولد الطايع من بين جموع المصفقين على جانبي الطريق في واحدة من رحلاته الداخلية.

وأسفي كبير لأن معلوماتي عن المسار التعليمي للرجل محدودة، ولكنني أعرف أنه منحدر من واحدة من هذه الأسر التي هي جامعة بحد ذاتها، وبمجرد أن تتربى في أحضانها فإنك تعد إعداد الدكاترة في علوم القرآن والحديث والفقه واللغة والتاريخ. وقد احتل موقعه باكرا بين نجوم النخبة المثقفة في مدينة "مقطع لحجار" العريقة.

وفي الستينات والسبعينات يوم كان النضال لاستكمال الاستقلال السياسي عن طريق تأمين الاستقلال الاقتصادي والنقدي والثقافي هو الهم الذي تتقاطع عنده الاتجاهات الإيديولوجية والسياسية المختلفة لدى الشباب الموريتاني في تلك الفترة ويوحدها جميعا في بوتقة حركة "الكادحين". كان واحدا من مناضلي هذه الحركة، حتى أعلن مع مجموعة "الميثاتيين" نهاية المعارضة السياسية لنظام "حزب الشعب الموريتاني" عام 1973 عندما تم إعلان تأميم "ميفرما، وتأسيس العملة الوطنية الأوقية" و إصلاح التعليم.

وبناء على هذا الماضي العلمي والسياسي توفر لولد بلال رصيد أهله لأن يعتمد عليه الحزب الجمهوري لا كمجرد مسئول عن العمليات الانتخابية أو تسيير ميزانية السيارات والمحروقات والتموين في المهرجانات والحملات الانتخابية وإنما كـ"مدير سياسي" للحزب. و صاحب هذا المنصب هو المسئول عن "التحرير السياسي" وإنتاج الخطاب الذي يستخدم في التنظيم والتوجيه السياسيين. أو يمكن القول إنه "العقل المفكر" أو "فيلسوف الحزب".

واضطلاع ولد بلال بهذه المسؤولية في تلك المرحلة دليل على أنه أهل لتولي الوزارة والسفارة في العهد القديم كما في العهد الجديد، ولكنه يقلل من القيمة الإقناعية لمحاولته القول بأنه كان مجرد موظف يعتاش في ظل نظام ليس ملزما بخياراته، ضمن تمييزه بين ما سماه "خصوصية الفرد وعمومية النظام". فبهذا الموقع، ثم بموقع الناطق الرسمي باسم ولد الطايع في آخر حملة انتخابية رئاسية له، وبموقع وزير الخارجية في آخر حكومات ولد الطايع، لا يعتبر موظفا من الصف الأول في السلطة فحسب، بل واحدا من القلة الذين ينتجون الخطاب أو الإيديولوجية التي يرتكز إليها ذلك النظام.

ولد محمد موسى وزير العلم والقلم :

بما أن الميدان في ساحتنا الوطنية في العقود الأخيرة لم يكن ليتيح الفرصة للظهور سوى لصنفين من الناس أحدهما "أباطرة السوق" والآخر "بارونات السلطة" وخصوصا منهم الإداريون الذين يحظون بصلاحيات الصرف في الميزانيات العامة، وبما أن السالك ولد محمد موسى لم يكن ينتمي إلى أي من هذين الفريقين، فقد ساعدته الأقدار بمنحه فرصة هي ربح في حياة العظماء، وهي أن يتكون الواحد منهم ويتطور ويحقق جزءا كبيرا من أهدافه النبيلة بعيدا عن الأضواء وعن عيون الحاسدين وعيون المعجبين معا.

أما أنا فقد شرفت بالتعرف عن قرب وعلى مدى أزيد من ربع قرن على هذا الشاب الفذ بين أقرانه. وسعدت بالاحتكاك المتواصل به منذ بداية الثمانينات و بدون انقطاع وذلك في العائلة ووسط شلة الأصدقاء وفي المنتديات الثقافية و في سهرات السمر الفكري في الإعدادية والثانوية والجامعة، ثم في العمل المشترك في تدريس الفلسفة وفي الكتابة والنشر، إلى أن حدث ما كتبه الله وهو أن ننجح معا ضمن نخبة من الموظفين الموريتانيين في دخول السلك الدبلوماسي كمستشارين للشؤون الخارجية بعد المسابقة الداخلية لعام 2007.

وإذا كانت تلك العقود قد توالت على من يحتلون اليوم الصفوف الأمامية بين أهل النفوذ في البلاد، وهو يكدسون المال بالتفرغ للسوق أو يضاعفون حجم نفوذهم الإداري والسياسي بتوسيع العلاقات وجمع الأصوات وبطاقات التعريف خلال الحملات الانتخابية، فإن ساعات ودقائق هذه العقود قد مرت على صديقي السالك وهو يراكم المعرفة ويتلذذ بمجالسة الكتب، حمامة في المكتبات والمراكز الثقافية. اسألوا إطلال المراكز الثقافية التي أغلقت أبوابها كالمركز الثقافي السوري والليبي، وتلك التي ما تزال صامدة مثل المركز الثقافي المغربي ومكتبة العرفان.

وعندما سجلنا في قسم الفلسفة بجامعة نواكشوط، ثم بعد مسابقة الاكتتاب في ذات القسم بالمدرسة العليا للتعليم، تفرغنا نحن للتخصص الفلسفي، بينما رأى هو أن ذلك التخصص لا يشبع نهمه المعرفي ولا يشغل إلا جزءا من وقته. فسجل بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، لنتخرج نحن بالمتريز في الفلسفة، بينما حصل هو شهادتي المتريز في الشريعة والفلسفة في ذات الوقت عام 1991.

وفي مجال التكوين لم يكتف صاحبنا بذلك، وإنما سجل في قسم اللغة الانجليزية وتجاوز فيه إلى السنة الثانية قبل أن تمنعه ظروف قاهرة من المواصلة، ثم سجل في عدد معتبر من دورات اللغة الفرنسية التي نظمها التحالف الموريتاني / الفرنسي.

ولولا أن جامعة نواكشوط لا تتوفر على مستوى السلك الثالث لكان نجم هذا الشاب قد لمع منذ وقت بعيد بين النخبة من دكاترة موريتانيا. إلا أنه لم يضع الوقت فبمجرد أن فتحت "جامعة شنقيط" الحرة السلك الثالث في الشريعة والقانون بادر إلى التسجيل فيه على حسابه الخاص، وهو يكمل فيه هذه السنة إجازة الماستير ببحث في القانون الإداري حول "تفليس الشركات".

***

وبمجرد عودته إلى نواكشوط من مدينة ازويرات حيث كان يدرس في منتصف التسعينات بدأ القراء يتعرفون عليه ككاتب صحفي، تسيطر على كتابته روحه العالمة ولغته الأدبية الساخرة و الرصينة، قبل أن ينتهي به المطاف رئيسا للتحرير في واحدة من المجلات الوطنية المعروفة .

هذا الشاب تصدق عليه – كما لا تصدق على أحد في موريتانيا اليوم – صفة " الشمعة التي تحترق لتضيء غيرها". لقد تخرجت على يديه أجيال اجتازت بفضل علمه ومنهجه التربوي امتحانات الباكلوريا. وقد ارتبط به طلابه وأعجبوا به إلى درجة أن كثيرين منهم يلجأون إليه طالبين دعمه في تحضيرهم لمختلف المسابقات المهنية التي يشاركون فيها في مختلف المجالات. وكم كان يعتب عليه الأهل ونعتب عليه نحن عندما يشعر الجميع بأنه يحرم على نفسه الراحة وأحيانا فترة النقاهة بعد الاعتلال لمجرد أن طالبا يلجأ إليه لطرح سؤال علمي، وذلك حتى في وقت متأخر بعد يوم من العمل الشاق. وتلاميذ السالك ولد محمد موسى موجودون في مختلف إدارات ومؤسسات القطاعين العام والخاص، بما في ذلك القطاع الدبلوماسي، وهم خير شاهد على ما قلته.

***

السالك ظل دوما نجم مجموعة الأصدقاء التي درجنا على تسميتها "الشلة". وفي كل مرة نجد فيها واحدة من الفرص القليلة للسمر والالتقاء معا في فسحة خارج المدينة أو مقيل مع أحد الأصدقاء، بعد مضي شهور من عدم اللقاء، كان الجميع يتفقون على تأجيل البرنامج عندما لا تسمح للسالك التزاماته بالحضور، ففي غيابه لا يحلو السمر، ويفقد الحديث ذو الشجون طعمه وطرافته العلمية والأدبية.

وإذا كانت الحكومات المتعاقبة لم تجد لولد محمد موسى مقعدا وزاريا فيها، وإذا كانت البورصات المالية الموريتانية لم تتداول أسهما لشركاته، فإنني من هنا أعلنه أمينا عاما في "حزب العلم" ووزيرا في حكومة الفكر والقلم، وأعلم كل دارسي المؤشرات المالية بأن لدى الرجل رصيدا ورأسمالا معرفيا وفكريا يفوق رصيد كل هؤلاء الذين اعتادت إذاعة وتلفزة موريتانيا أن تضعهم في المقدمة بين نخبة علماء الشريعة ونجوم الثقافة والأدب. وأتحدى القائمين على الإذاعة والتلفزيون أن يستدعوا السالك إلى برامجهم الحوارية ليعلموا إلى أي حد سيجدون أنفسهم أمام واحد من نخبة النخبة من علماء الشريعة واللغة والآداب والقانون والسياسة في موريتانيا، بل وفي بلدان العالم العربي والإسلامي كلها.

سفيرنا في ليبيا المنفي دبلوماسيا :

كل منا يعرف وزارة الشؤون الخارجية أو احتك نوع احتكاك بأشخاص البعثات الدبلوماسية الموريتانية في الخارج يعرف أن هذا القطاع ظل دوما منطقة محمية خاصة بالفاشلين من أبناء وأقرباء وزبناء الوزراء والسفراء، ولهذا يشهد الجميع أنه عندما تم الإعلان عام 2007 عن تنظيم مسابقة اكتتاب للدبلوماسيين تابعت قطاعات الرأي العام الموضوع باهتمام باعتباره سابقة يصعب تصورها حتى تلك اللحظة.

وعندما علمنا بالشق الخاص بالمسابقة الداخلية المفتوحة أمام موظفي الفئة (أ) طويلة الذين لهم أقدميه لا تقل عن 15 سنة من الخدمة، تحركنا استعدادا لخوض المنافسة. وبسرعة اصطدمنا بمحاولات وزيرة التعليم يومها لمنع مشاركة الأساتذة في المسابقة باعتبارها ستفقد التعليم نخبة من أساتذته. لكن الأساتذة خاضوا معركة "الأذرع الحديدية" مع الوزيرة وتحركت النقابات المهنية للتعليم، وبرز السالك ولد محمد موسى ضمن القياديين في تلك المعركة، وتصلبت الوزيرة بشدة، وخرجت أصداء المعركة إلى الصحافة، لكن السالك وزملاءه انتصروا وأجبروا الوزيرة على التراجع وتمكنوا بدعم من النقابات والوظيفة العمومية من المشاركة في المسابقة مع زملائهم من القطاعات الأخرى.

***

ومن المفارقات الطريفة التي تحضرني في مسار تجربة الحياة المشتركة مع السالك، أن الأقدار شاءت أن نكون في نفس القاعة بالمبنى القديم بالمدرسة الوطنية للإدارة، الذي أزيل اليوم لإقامة فندق الفاتح، وأنني كنت بالضبط على الطاولة التي وضعت أمام طاولته هو. وقد جلس مع صاحبي مدير كبير ومعروف وطنيا لا يقل منصبه قيمة عن منصب وزير أو سفير من الذين أتحدث عنهم اليوم.

وأقف هنا لأقول إن ذلك المدير الكبير ومعه سعادة السفير ولد بلال يستحقان منا تحية خاصة، فقبول ذلك المدير بالمشاركة في مسابقة مهنية شفافة مفتوحة أمام الجميع دون أي تمييز دليل على ثقة بالنفس وعلى أن لدى الرجل مؤهلات حقيقية وأنه يستحق بالفعل منصبه ولا يمكن لأي مدير من أصحاب الشهادات المزورة والمكانات المصنوعة بالهندام والسيارة الفارهة والمظاهر أن يخضع نفسه لاختبار كهذا. وقل نفس الشيء عن السفير "بلال" الذي امتلك الشجاعة لمنازلة فر سان الكلمة من الكتاب والصحفيين في ميدانهم، ففي ذلك دليل أن لديه بضاعة تألق بها في هذا الميدان. و محل الاستشهاد في القصة أن السالك ولد محمد موسى نجح ضمن الأوائل في المسابقة بينما لم يتجاوز جليسه على الطاولة الكتابي.

لكن هذا الطود الشامخ بين أهل الفكر والعلم والقلم، الذين عمدته الشكليات القانونية مستشارا للشؤون الخارجية في الدرجة الأولى والرتبة السادسة وهي تمثل قمة الهرم في الإطار الدبلوماسي وليس وراءها سوى درجة الوزير المفوض. ولديه أقدمية ثلاث سنوات من العمل في الوزارة - مع العلم أن أقدميته بمقتضى القانون هي 19 سنة إذ أن الموظف المكتتب في المسابقة الداخلية تحتسب له اقدميته خارج السلك وافدمية في السلك ليس مكلف بأية مهمة محددة. ويمكن القول إنه معين - مع عشرات الدبلوماسيين في "مصلحة شرب الشاي" وتبادل أطراف الحديث، والتنقل من مكتب إلى أخر ومن رواق إلى غيره في وزارة الخارجية في حالة من البطالة المقنعة المتواصلة.

***

الأبشع من كل هذا هو أن "مافيا الفساد" في وزارة الخارجية قد نجحت – لا أدري كيف – في إقناع وزيرة الشؤون الخارجية بالإعلان أمام نواب الشعب يوم 4 يونيو الأخير أن المجموعة التي ينتمي إليها ولد محمد موسى "هم مجرد طامعين في مناصب لا حق لهم فيها، وأنهم حالمون ضلوا الطريق، وأنهم لا يصلحون لتمثيل موريتانيا في الخارج".

وهنا أترككم في مواجهة الوقائع لتحكموا بأنفسكم، كما ترك كاتب مقال "حكومة في المنفى" قراءه في مواجهة وقائع مشابهة.

كانت المرة الوحيدة التي أتاحت فيها وزارة الشؤون الخارجية للسالك ولد محمد موسى فرصة للسفر إلى الخارج في مهمة يمثل فيها الدبلوماسية الموريتانية، هي في إطار الرحلة التي رافقته فيها مع قرابة الثلاثين من أطر وزارة الخارجية، لحضور دورة تكوينية بالمعهد الدبلوماسي بطرابلس العاصمة الليبية في شهر أكتوبر 2009. وطيلة أسابيع تلك الدورة لمع نجم السالك وتعرف الجميع على كفاءاته المتميزة ومعارفه الغزيرة.

أما الواقعة ذات الدلالة الخاصة هنا، والتي ستشرح لكم لماذا عمدت الزميل السالك سفيرا فوق العادة لموريتانيا لدى الجماهيرية الليبية العظمى فهي التي أسرد عليكم الآن.

"كان ذلك في صبيحة يوم جميل حار- يومين على ما أذكر قبل اختتام دورتنا بالمعهد الدبلوماسي - عندما ركبنا الباص الجماعي وسرنا على ضفاف المتوسط التي يفوح منها عبق الحضارات المتعاقبة. وكانت المحطة الأهم في جولتنا السياحية ذلك الصباح هي التي قادتنا إلى أطلال مدينة "صبراطة" والآثار اليونانية والرومانية فيها. ولروعة ودلالات المشاهد فقدنا الاتصال ببعضنا وانشغل كل بسماع الشروح التي يقدمها الدليل حول واحد من الآلهة أو حول بعض الحمامات ومجالس البلدية أو مواقع الذبح ومعاصر الزيت التي تعود كلها إلى قرون قبل ميلاد المسيح. و ذلك قبل أن نلتقي جميعنا على مدرجات "المسرح الروماني"، الذي يعود بناؤه إلى القرن الثاني قبل الميلاد، و افتتحه بعد الحفريات و الترميم الرئيس الإيطالي "موسيليني". و فوق المسرح الروماني – ربما بشهادة أشباح النخبة من أبناء روما الذين اعتادوا مشاهدة صراع الفرسان مع الأسود و النمور في هذا المكان - دخل الوفد الموريتاني في مأزق دبلوماسي. لقد التفت إلينا الليبيون المرافقون قائلين : ألستم من بلد المليون شاعر فهل فيكم من يقول الشعر؟ والحقيقة أنني طيلة تلك الصبيحة كنت أحس بأن مشاهد "صبراطة" تستدعي الشعر قبل كل شيء آخر، وأن كل أشكال الخطاب الأخرى تفقد قيمتها في تلك اللحظة، رغم أن علاقتي بالشعر لا تتجاوز تذوقه واستهلاكه.

وبعد سماع ما قاله الليبيون التفت إلى صديقي السالك قائلا : لقد أحرجنا القوم فهلا أنقذتنا من هذا المأزق؟ فرمقني الرجل بنظرة تحذير. لكنني تابعت وعزفت على وتر أعرف أنه مؤثر في النفوس العزيزة من أمثال نفسه هو، وقلت : أنا أعرف أن روح الشباب والرومانسية فيك قد بدأت تشيخ وأن العلم والفقه والقانون بدأت تقتل فيك الشعر والخيال، لكنني أستعطفك أن تبذل جهدا لإخراجنا من هذا "المأزق الدبلوماسي".

وكنت متأكدا أنني لا أكلف الرجل فوق طاقته فهو شاعر من القمة، ومن الصعب أن لا يكون كذلك وهو الذي ينتمي إلى قبيلة "بني يعقوب" التي يندر من أبنائها وبناتها من لا يقرض الشعر الفصيح والشعبي. وهي قبيلة "أمحمد ولد الطلبة" و "المامون" و "لمجيدري" واللائحة طويلة قديما وحديثا وحاضرا.

ولم أصب بأي إندهاش - رغم أنني فرحت لتخلصنا من المأزق الدبلوماسي - عندما وجدت ولد محمد موسى يملي قصيدته على أحد الزملاء، ونحن نستعد لدخول قاعة حفل اختتام الدورة. وفي ذلك الحفل لم نسمع مجرد أبيات تخرجنا من مأزق وإنما قصيدة عصماء بعنوان "وداعا طرابلس الغرب" يقول فيها الدبلوماسي الشاعر :

أخذت إلى لقياك للشوق موعدا

فدرب الهوى سهل وأفق المنى رحب

وأشرقت فالتاريخ سفر معطر

يتيه على الأيام من حسنة الغرب

فذا (عمر المختار) روت دماؤه

ثراك فهاج الثأر والتهب الدرب

وذا الفاتح الميمون فجر ثورة

أطلت على الدنيا بها يحكم الشعب

إلى أن يقول : طرابلس كم للعرب أيدت موقفا

وشيدت مجدا دونه الأنجم الشهب

وداعا طرابلس فحبك خالد

مدى الدهر لا يمحوه نأي ولا قرب

ولا زلت للأحرار ذخرا وملجأ

إليه تنادي منهم العجم والعرب

وداعا طرابلس العلا لك عهدنا

نهيم به عشقا ولا ينتهي الحب

مضطهدون بسياط الكلمات :

ذلك عن الكاتبين أما عن المكتوب فهو في نظري من جنس الكتابات التي تجد مثلها في بلادنا بالكاد مرة أو مرتين كل سنة، وإذا سمحتم لي سأقول إننا لسنا أمام مقالين صحفيين من الجنس العادي وإنما أمام رؤيتين تحليليتين، وربما ذهبت أبعد فقلت إننا في مواجهة مقاربتين فلسفيتين لموضوعة الإصلاح والتغيير في علاقة ببعد تسيير الموارد البشرية.

وإذا كنا أمام كاتبين ينتميان فكريا وسياسيا إلى حركة الإصلاح التي يقودها الرئيس محمد ولد عبد العزيز فإنهما يقدمان أطروحتين مختلفتين، من الواضح أن كلا منهما تسعى إلى التأثير على الإرادة السياسية لولد عبد العزيز ونظامه، لتوجيهها نحو نمط خاص يرى الكاتب أنه الأليق والأصلح لمحاربة الفساد ونشر قواعد الشفافية والعدل في مؤسسات الدولة.

وفي كلتا الحالتين تجد محرك الكتابة مشكلة تنتمي إلى الحياة العملية يواجهها الكاتب أو الفئة التي ينتمي إليها، لكنه يرفض البقاء عند المستوى المطلبي المباشر- مستوى يجب وينبغي - بل يصر على الارتفاع بالقضية إلى المستوى التحليلي الذي يعالجها في علاقة بجذورها وأسسها.

***

وفي حالة محمد فال ولد بلال فإن المنطلق هو حميته للدفاع عن حقوق وشرف عصبته من الوزراء – السفراء الذين وصفهم مقال "أمجاد" بأنهم "حكومة منفى". والرجل يتحدث بلغة فيها مزيج من الغضب والمرارة، لكونهم صبروا طويلا على النيل منهم. يقول : "ليست هذه أول مرة نسمع فيها أطروحات من قبيل أن كل من شغلوا قبل هذا – منصب وزير في العهد السابق – "هم فاسدون ومفسدون". لقد تعرض هؤلاء لحملات تشويه وسب وشتم متواصلة، حاولت النيل من أعراضهم وقتلهم معنويا، وعزلهم اجتماعيا، وإقصائهم سياسيا، وحرمانهم وظائفيا. تكالبت ضدهم الأقلام وتطاولت عليهم الأقزام، وانبرت في تصويرهم على أنهم يؤخرون ولا يقدمون، وأنه لا مستقبل لهم، وأنهم يرمزون إلى كهوف الماضي ويناهضون التقدم والبناء، ولا محل لهم من الإعراب في موريتانيا الجديدة. ولكنها لم تفلح تماما في أن تنال من سمعتهم وانتمائهم للوطن، كما أنها لم تقدم دليلا ملموسا يمس نزاهتهم أو سلوكهم الشخصي، بعد مسلسل من التحريض ضدهم وتعبئة الذاكرة الشعبية بصورة مستمرة على تشويه صورتهم وترسخ في عقول الناس أنهم الفساد ذاته".

يا لروعة الكتابة، إن قارئ هذه السطور يقع تحت "سحر البيان"، حتى لينسى أن هؤلاء الوزراء – السفراء هم من كان وما زال يستفرد بكل الحقوق ولا يترك للآخرين سوى الفتات. أما مع هذا النص الفني الرائع فإنك أمام مضطهدين مظلومين يراد "حرمانهم وظائفيا" وإقصاءهم وتشريدهم.

وفي مواجهة المشكلة التي يعاني منها هؤلاء "المضطهدون" – وسفيرنا في قطر واحدا منهم – لا تجد نفسك أمام خطاب نقابي وإنما أمام رؤية كلية تربط القضية بجملة قضايا الوطن وقضايا الدين والتاريخ الحاضر والماضي والمستقبل. أو قل إنه هنا يبني فلسفة كلية ذات منطلقات دينية وتاريخية وسياسية.

يقول : "واليوم فإني أرى في الصفحة المسيئة للسفراء – الوزراء السابقين وأنا واحد منهم فرصة للمشاركة في النقاش وإبداء بعض الملاحظات حول العلاقة بين الأنظمة والرجال (عمومية النظام وخصوصية الفرد)، والتواصل بين الأجيال، والنهج السليم في محاربة الفساد والمفسدين استنادا إلى خلفية دينية وتاريخية، وتجارب عالمية وحقائق اجتماعية، وثقافية، وذلك دعما للجهد الوطني المناهض للفساد، وخصوصا في ظل تعاظم الوعي الرسمي والمدني بضرورة التماسك الوطني من أجل تحقيق منجز على هذا الصعيد".

الدبلوماسية للفنيين والبريد للدبلوماسيين :

أما نفاذ الصبر الذي يتم التنفيس عنه كتابة في حالة ولد محمد موسى، فهو نفاذ صبر مجموعة تعاني الظلم في واقع حياتها المهنية لا بفعل كلمات منطوقة أو مكتوبة. مجموعة محرومة وظائفيا بالفعل لا بالقول. مجموعة لا تدافع عن كراسي تهتز تحت تهديد وهمي من قبل أشخاص يطلقون رعود وبروق وقنابل كلمات لا تؤثر، "والقافلة تغذ السير رغم نباح الكلاب"، وإنما هي بصدد المطالبة بمقاعد التمثيل في البعثات الدبلوماسية في الخارج، التي تمثل مقاعد مستحقة منعت منها، وهذه الفئة هي التي أسميها هنا "دبلوماسيي المنفى الداخلي".

***

من هم دبلوماسيو المنفى الداخلي؟ وكيف يكون الوطن منفى لأبنائه؟

للبدء في إجابة السؤال أقول : إن المقصود هنا ليس هو مجموعة الـ 35 مستشارا الذين ثارت حولهم الضجة حتى ترددت أصداءها في الجمعية الوطنية بداية يونيو الماضي، فهذه الجماعة ليست سوى واحدة من مكونات تلك الفئة، وإنما المقصود مجموع الدبلوماسيين المهنيين المهمشين.

ودعوني أضع لكم النقاط على الحروف، متحررا للحظات من تلك المجاملات البروتوكولية البائسة لدى الكثيرين منا في وزارة الخارجية. حيث يقول لك أحدهم :" أنا سعيد تماما بقرارات إدارتي ويشرفني أن أخدم الدولة الموريتانية أيا كان المكان الذي وضعتني فيه، في الداخل أو في الخارج، وفي الرواق أو حتى تحت السلالم. ومهما كان الراتب المخصص لي مكافئا أو غير مكافئ لرواتب زملائي من الدبلوماسيين". ففي كل مرة أسمع فيها هذه الجمل من أحدهم، أسمع من خلفها صدى صوت بائس أشبه بأنين المريض أو حشرجة المحتضر، يكذب صاحبه، وتشهد له تضاريس وجهه المتعبة. والسبب بسيط هو أنه لو وجدت معايير متوازنة يخضع لها الجميع لكان هذا الخطاب واردا تماما وسليما مائة بالمائة، ولما كان صاحبه محتاجا إلى ممارسة الكذب والنفاق علنيا، ولما كان ما يقوله لنفسه وللذين يثق بهم من خاصته مختلفا. إن الحقائق غير القابلة للدحض تقول : إن الدبلوماسي أي دبلوماسي في هذا العالم لا يعتبر ذاته في وضعية تعيين مرضية وفي حالة تكليف مريحة، مصحوبة بالامتيازات التي يبحث عنها كل موظف دبلوماسي شأنه شأن الموظفين جميعا، إلا حيث يكون معينا في واحدة من البعثات الدبلوماسية الخارجية لدولته. والأمر يتأكد بالتضاعف في حالة الدبلوماسي الموريتاني، حيث أن راتب هذا الدبلوماسي العامل في الإدارة المركزية ينخفض إلى عشر راتب زميله في إحدى البعثات بالخارج، والدبلوماسي الموريتاني بخلاف كل الدبلوماسيين في العالم لا تتوفر له أية علاوة خاصة بالمهنة، وعلاوته الوحيدة هي تلك التي يتقاضاها مقابل التعيين في الخارج.

*** وهذا الوضع مفهوم من جهة أخرى في ضوء كون الدور الأصلي للدبلوماسي هو التمثيل لدى الشركاء الخارجيين والعمل على تطوير العلاقات معهم وتوسيع وتنويع أشكال التبادل بين البلد ومحيطه الإقليمي والدولي، بينما عندما يكون مكلفا بالمهمات الإدارية فهو يعتبر كما لو كان في حالة إعارة.

وهذا البعد في التمييز داخل وزارات الخارجية والبعثات الدبلوماسية بين العمل الدبلوماسي والعمل الفني والإداري واضح في نص وروح "اتفاقية افيينا"، كما في النظام الداخلي لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون الموريتانية حتى في طبعته الجديدة، رغم أننا نأسف لتلاعب البعض بهذه التصنيفات، وهو تلاعب بدا واضحا في المقرر الذي وقعته وزيرة الشؤون الخارجية والتعاون يوم 9 يوليو الماضي، لتحديد أعداد وفئات الموظفين في البعثات الدبلوماسية في الخارج.

ففي هذا المقرر تم اعتماد تصنيف ثنائي بين فئة "الموظفين الدبلوماسيين" و "المكتتبين المحليين" ، بينما اختفت فئة الموظفين الإداريين والفنيين، في تناقض مع النظام الداخلي الموقع من طرف الوزير الأول واتفاقية افيينا التي هي بمقتضى الدستور أسمى من القوانين الوطنية منذ ان صادقت عليها بلادنا، و مع المقرر السابق عليه حول ذات القضية.

ذلك من الناحية القانونية اما من الناحية المهنية فهو يفتح الباب لتوسيع الفوضى القائمة و يحولها من أمر واقع إلى قانون. و اقصد هنا فوضى تشريف الإداريين و الفنيين و مساعدي الدولة بالوظائف الدبلوماسية و تسفير الدبلوماسيين نحو الوظائف الفنية و الادارية، في الداخل كما في الخارج، و هو أمر يعتبر نفيا و إبعادا لا مزيد عليه لهذه الفئة. و هذا التفصيل البسيط في الظاهر، و الذي مررته "مافيا الفساد" أثناء تحضير مقرر 9 يوليو الماضي لتوقعه الوزيرة و هي تطارد الطيران بين رحلتين – ما منعها من القراءة المتأنية لمضمونه هو على درجة عالية من الأهمية و الخطورة. و ذلك ما يفسر قول السالك إن الوزيرة في خطابها أمام البرلمان يوم 4 يونيو قد أطلقت بسخاء صفة الدبلوماسيين على عدد كبير من الأشخاص الذين لا يستحقون هذه الصفة.

***

و هذا الوضع هو الذي يفسر كون معظم النظم الداخلية في مختلف دبلوماسيات العالم تعتمد مبدأ التناوب الدبلوماسي، على نحو يسمح للدبلوماسي ان يخدم فترة 4 سنوات في الخارج قبل أن يعود ليخدم سنتين في الداخل، ثم يعود للعمل في الخارج من جديد و هكذا. و قد نص النظام الخاص للأسلاك الدبلوماسية و القنصلية الموريتانية الصادر و المنشور في الجريدة الرسمية عام 2007، على اعتماد ذات المبدأ. و حيث يطبق هذا المبدأ في مختلف دول العالم - بما فيها دول الجوار – يعرف الدبلوماسي مسبقا اليوم الذي سيغادر فيه الى الخارج "حيث موطنه المهني الأصلي" و اليوم الذي سيغادر فيه إلى الداخل حيث وطنه و "منفاه المهني"، والعكس. إما في موريتانيا حيث يبقى المبدأ حبرا على ورق فان الوظائف الدبلوماسية تسند لأشخاص هم في أحسن الأحوال إداريون أو فنيون من فئة مساعدي الدولة، بينما يفرغ الدبلوماسيون للبطالة، و في أحسن الأحوال يكلفون بمهمات السكرتارية و التحرير الإداري و الرد على البريد الوارد و تحضير و تصحيح الصادر. ضمن حالة إذا لم تجيزوا لي تسميتها سجنا – و السجن أحب إلي – فهي حالة من النفي و الإبعاد.

أجيال دبلوماسيي المنفى الداخلي

و في هذا المنفى الدبلوماسي الذي يكتب ولد محمد موسى دفاعا عن منسوبيه الذين هم "عصبته" أو "لوبيه" – ما دام محرما علينا في بلاد "المنكب البرزخي" هذه استخدام المصطلحات الجمهورية من مثل "التضامن المهني" أو "النقابي" – تقيم ثلاثة أجيال من الدبلوماسيين الموريتانيين. و الرجاء المسامحة و التنبيه إذا كانت هنالك أخطاء في المعلومات فالمعلومات الدقيقة شحيحة أو قل إنها معدومة في وزارتنا :

الجيل الأول : و يضم مجموعة الملحقين الدبلوماسيين المكتتبين في السبعينات و الذين تقاعد بعضهم في السنوات الأخيرة و ينتظر البعض الآخر الإحالة إلى المعاش في ظرف قصير جدا بالنسبة للبقية. و يستحق الوداع الذي خصصته وزارة الخارجية لهذه المجموعة من أعمدة الدبلوماسية الموريتانية الذين مثلوا البلد أحسن تمثيل في الكثير من عواصم العالم و الكثير من الملتقيات الدولية، وقفة أسف. إنهم رجال أمنوا للبلد من الاستثمارات و فتحوا له من آفاق الشراكة و التبادل ما عوض و على نحو مستديم أضعاف و أضعاف ما صرف لهم من علاوات، بخلاف الآخرين الذين لم يحققوا للبلد سوى السياحة على حسابه و المضاربة برصيده من العملات الصعبة.

هاهي قافلة من خيرة الدبلوماسين المهنيين تودعنا بأياد خاوية بعد سنوات من النفي بعيدا عن البعثات الدبلوماسية في الخارج، و في جو لا توفر فيه الوزارة أي أفق لاستمرار خيط التواصل مع هذه النخبة للاستنجاد بخبراتها و علاقاتها على المستوى الدولي فيما بعد، من مركز دراسات دبلوماسية أو معهد دبلوماسي أو أي إطار مشابه. و الله وحده يعلم كم نحن بحاجة إلى خبرتهم و علاقاتهم. انظر كمثال لحالات كثيرة مشابهة حالة السفير مدير الشؤون الأوربية بالوزارة عبد الرحمن ولد حمزة.

الجيل الثاني : و يضم مستشاري و كتاب و ملحقي الشؤون الخارجية المتخرجين من شعبة الدبلوماسية بالمدرسة الوطنية للإدارة عام 1984. و هذا جيل مرشح للتقاعد هو الآخر في ظرف السنوات الأربع القادمة. و يتعلق الأمر بمجموعة ضمت نخبة السفراء و المستشارين الأول في السفارات والمديرين المركزيين في وزارة الشؤون الخارجية، و ذلك رغم الظروف الصعبة و المتوترة التي أحاطت عملية دمجها في السنوات الأولى. و من بين أفراد هذه المجموعة عدد من العناصر المعطلة عن أية وظيفة أو مهمة دبلوماسية و على رأسها وزير الخارجية الأسبق محمد السالك ولد محمد الأمين، والدكتور احمد ولد القاضي الأمين العام السابق و عميد أساتذة شعبة الدبلوماسية بالمدرسة الوطنية للإدارة هذه الايام.

و من عناصر هذا الجيل المكلفين بمهمات رئيسية أو هامشية في الإدارة المركزية، على سبيل المثال لا الحصر : المفتش العام و المدير الإداري و المالي و المكلف بمهمة بديوان الوزيرة و المستشار القانوني و المدير المساعد للمنظمات الدولية. و كل ذي نظر يدرك أن ترك هذه الكوكبة من الدبلوماسيين في سنوات القمة في قدرتها على الأداء سجينة المكاتب الإدارية مطاردة بأكوام من المراسلات الإدارية التي يستطيع كل من هب و دب أن يتعامل معها بنجاح، او مبعدة و مهمشة دون أي مسؤولية او امتياز، يمثل "جزاء سنمار" لها على خدماتها الجليلة، ثم هو فساد و هدر للطاقات، وجريمة في حق الدبلوماسية الموريتانة و في حق الوطن الذي ينفق على هذه الدبلوماسية ملايين الدولارات التي بررت لنواب الشعب و لرئيس الجمهورية بأنها ستنفق على الكفاءات التي ستزيد من حجم الاستثمارات الدولية في موريتانيا و ستوسع و تنوع من علاقاتها الخارجية و ستحسن من صورتها في الخارج.

و لو كانت لدينا إستراتيجية مدروسة و متوازنة في تسيير الموارد البشرية للوزارة – و هي وزارة اعتمادها المركزي هو الموارد البشرية – لكان أبناء هذين الجيلين من الدبلوماسيين المهنيين أحق بمقاعد السفراء من تلك الزعامات السياسية و القبلية التي لن تفيد السفارات إلا بمزيد من الشلل و التباطؤ في الأداء المهني. ذلك أن الأمر يتعلق بزعامات فيها من ترشح للرئاسة و آخرون يطمحون إلى ذلك. و المجموع منشغلون بالسياسة المحلية . أما اعمد الدبلوماسية العاطلون عن العمل اليوم فخبرة كل منهم و أفقه الوحيد هو الدبلوماسية. مع الدبلوماسية بدأ حياته المهنية و معها يتقاعد و هو محاسب من طرف وزارة الخارجية والوظيفة العمومية على أخطائه و تجاوزاته في العمل بما هو تابع لهما، بخلاف بارونات السياسة.

الجيل الثالث : و يضم مجموعتين إحداهما قليلة وغير متجانسة، هي مجموعة المدمجين بقرارات من مجلس الوزراء أو بمسابقة ملفات في الفترة الفاصلة مابين 1984 و 2007. و المجموعة الأهم و الأكثر تجانسا هي مجموعة ال35 مستشارا للشؤون الخارجية التي نجحت في مسابقة 2007. و تضم مجموعة ال35 جيلين :

جيل المعاد ترسيمهم : و يضم مجموعة الذين خدموا في التعليم و الإدارة لمدد تتراوح ما بين 16 إلى 23 سنة قبل أن يشاركوا في المسابقة الداخلية التي تشترط أصلا اقدمية 15 سنة من الخدمة في أسلاك الفئة (أ) طويلة من أسلاك الوظيفة العمومية. و تطبيقا للمواد القانونية التي تسير عملية إعادة الترسيم بعد المسابقة الداخلية فقد تم احتساب اقدمية المعنيين خارج السلك اقدمية لهم في السلك. و وفق لذلك فقد تم ترسيم المجموعة في رتب القمة في السلك الدبلوماسي، حيث اثنان برتبة وزير مفوض و البقية كلها برتبة مستشار اول للشؤون الخارجية – درجة سادسة، و تكمل هذه المجموعة في هذه الفترة عامها الثالث من العمل في مكاتب الإدارة المركزية. و ينبغي أن نضم إلى هذه المجموعة المستشار الحسن الذي خدم سنوات عديدة كاتبا للضبط و تم اختياره من بين النخبة ليكون الكاتب الخاص لوزير العدل، إلى أن شارك في مسابقة على المقعد المهني الوحيد في تلك المجموعة و فاز به رغم المشاركة المكثفة لأعداد كبيرة من الإداريين من مختلف الوزارات. و بعد سنتين من التكوين بالمدرسة الوطنية للإدارة تمت إعادة ترسيمه باحتساب اقدميته خارج السلك، و هو ما يضعه في رتبة متقدمة ضمن مستشاري الشؤون الخارجية من الرتبة الثانية.

جيل المكتتبين الجدد : و يتكون من 19 شابا حاصلين على شهادات لا تقل عن مستوى المتريز في القانون و الاقتصاد و عدد كبير منهم متحصل على الدكتوراه أو الماستر في هذه المجالات. و قد تم اختيارهم بعد مسابقة 2007 من بين أزيد من 1000 من المترشحين ليخضعوا بعدها للتكون لمدة سنتين في شعبة الدبلوماسية بالمدرسة الوطنية للإدارة، قبل أن يكتتبوا مستشارين للشؤون الخارجية درجة ثانية – رتبة أولى. و لو كان الحد الأدنى من التقويم المتوازن للموارد البشرية ضمن سلم عام شفاف توضع فيه قائمة عامة بجميع أشخاص الوزارة لكانت عناصر هذا الجيل ضمن النخبة القيادية بين المستشارين في السفارات و المدراء و المدراء المساعدين و رؤساء المصالح الإستراتيجية في مختلف قطاعات الإدارة المركزية. لكن الواقع أنهم حتى اللحظة التي يصدر فيها هذا المقال محرومون من تلك المواقع، حتى وهي خالية في الكثير منها. و هو ما خلق حالة من الشلل دفعت إلى إسناد ملفات بعض المصالح لأفراد من هذه المجموعة و لكن دون و جود مذكرات تعيين رسمية لذلك، ضمن واحد من الشواهد الصارخة على رفض الدبلوماسيين المهنيين في وزارتهم. و عندما نجمع لوائح هذه الأجيال الثلاثة من الدبلوماسيين المهنيين بعد حذف المتقاعدين، ستجد ان العدد يتجاوز بالكاد 100 عنصر، و 70% من هؤلاء يعيشون فيما سميته بالمنفى الدبلوماسي.

***

و في مواجهة هذه المعاناة لا يستنجد ولد محمد موسى بالنصوص الدينية و الفتاوى و

عودة للصفحة الرئيسية

الصفحة الرئيسية   |   أضفنا إلى مفضلتك   |   من نحن؟    |   اتصل بتا