في 6 يوليو 1998 وعند الساعة الثانية زوالا سلكت طريق العودة لوطني للمرة الثانية قادما من متاهات غربة شحذت همتي وجعلت مني شخصا آخر بعد ما عركتني الأيام وعلمتني الصبر والاعتداد بالنفس ومواجهة كل المشاكل العويصة وحيدا وفي ظرف وجيز.
في الساعة السابعة مساء وبعد 5 ساعات من الطيران حطت بي طائرة الخطوط الجوية التونسية صحبة كثير من زملائي الطلبة في مطارنواكشوط الدولي،وكان في استقبالي أهلي وبعض الأصدقاءالذين فرحوا كثيرا بعد أن زففت لهم خبر نجاحي في اللحظات الأخيرة للقاء بطعم النجاح طال انتظاره وكانت تقف دونه رواس شم من المصاعب.
قفلت معهم للمنزل ليبدأ عداد لحظات زمن هذه العطلة الصيفية الجميلة في الانطلاق، تتالت الأيام تترى ولكنني استطعت أن أستغلها بصورة محكمة حيث خصصت وقتا غير يسير منها للراحة والاستجمام والجلسات الأخوية وصلة الرحم وتجديد صداقات قديمة،وكنت حريصا على أن أخرج نهائيا عن كل ما له علاقة بالغربة وأجوائها الكئيبة وكذ الدراسة وظلالها التي تتسم بالجدية والانضباط بصرامة.
تميزت هذه العطلة بحضور بعض الحفلات المختلفة للأصدقاء والأهل والمعارف وبعض اللقاءات ذات الطابع الثقافي وجولات تنزه على المروج الخضراء في الريف وجلسات سمر لاتنسى مع أعز الأصدقاء وأكثرهم ظرافة.
سرقت تلك الليالي والأيام الجميلة في غفلة ولسان حالي في الشوق لمزيد منها يردد قول الشاعرفي وصف حال الوقت مع محبوبته وهجرها له :
أعوام إقباله كالطول في قصر ويوم إعراضه كالطول في الحجج
وقول الآخرفي حب جمع اللقاء دائما بحبيبته :
ولو أني خبأتك في جفوني إلى يوم القيامة ماكفاني
ولو نعطى الخيار لما افترقنا ولكن لاخيار مع الزمان
التقطت الكثيرمن الصور كالعادة مع الأهل والأصدقاء وعشت لحظات فرح لاتنسى خاصة مع أصحابي الشعراء بالفصيح والشعبي والذين لم يبخلوا في الترويح عني بظرافتهم المعهودة وخيالهم المجنح في عوالم الخيال والكلمة الطرية،وقد كان مجلسنا مجلس انس لاينسى.
وبما أن "ليالي الهنا تمر عجالا" كما مرت بنا الأيام من الطفولة وقت تعلمنا للمحفوظة التي منها هذا الشطر قبل 12 عاما خلت فقد كان داعي البين لي بالمرصاد من جديد..استدعى ذلك بطبيعة الحال تغيير الأجواء رأسا على عقب وعادت أجواء الغربة القاتمة تخيم علي من جديد مع استعادة شريط صور الوداع والسفر بالطائرة والمطارات ولغة السفر ومفردات الخارج في كل تلك الأجواء وحياة الطلبة في تونس وما تفرضه من ظروف مختلفة في كل مناحي الحياة بما فيها طرق التعبير عن الحاجيات وحتى المشاعر في بعض الأحيان.
بدأت إذن في الاستعداد للسفر مبكرا ووطنت نفسي من جديد على أن أجواء الغربة تفرضها الظروف .. لكنها ستنتهي حتما بالانتصار الكبير"التخرج" وعلي الصبر لأن "كلما هو آت في الزمان قريب" حسب قول أحد الشعراء.كما ان النفس تحتاج ترويضا على الصبر مصداقا لقول البصيري :
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
في 10 أكتوبر1998 كنت في مطار انواكشوط إيذانا برحلة جديدة في متاهات غربة لم تكتمل..
بقلم : محمد ولد محمد الأمين (نافع)
للتعليق والملاحظة :
oulnafaa.mohamed@gmail.com
ملاحظة : هذه المذكرات واقعية نشرت جامعة "جورج تاون" الأمريكية مقتطفات منها في بعض كتبها المدرسية المترجمة باللغة الانجليزية التي تدرس بغالبية جامعات العالم(راجع الحلقات السابقة بالموقع زاوية (رأي).