يتردد الكثيرون أو يتحفظون -خاصة من نخبة المثقفين والسياسيين- من الحديث أو الخوض في عملية الإحصاء، وما آلت إليه من مظاهرات واحتجاجات داخل البلاد. وبتمعن النظر فيما وراء كواليسها من جهة، والاضطرابات التي جاءت على أثرها من جهة أخرى، فإن الدوافع والأسباب لا يمكن إلا أن تكون محل نقاش و تحليل، و إعادة نظر. و هو ما يدفع المهتم بقضايا الأمة إلى طرح الكثير من التساؤلات.
إلى متى سنظل متخلفين لا نفرق بين ما هو شخصي وما هو عامي؟ و لا حتى بين الملكية الفردية و ملكية الجماعة, و بين ما هو متاح و ما هو غير متاح, أو ما المسموح به و ما ليس مسموحا به.؟ نجعل من الحبة قبة, نزيد من وفي كل شيء, مفرطين بالفطرة بيضا وسودا, عربا و زنوجا. نتباهى كثيرا بالإيجابي حتى نجعله سلبيا, و نتمادى في السلبي حتى يكون أكثر سوءا. نتمظهر بالحداثة, ونتلبس بالثقافة, و نعتقد التحضر, و نحن بعيدين عن كل ذلك.
هذا ما جعلنا لا نضع للوطن وزنا, ولا نفرق بين حقوقنا و واجباتنا, وقليلا ما نذكر نعم الله التي أنعم بها علينا. و عليه فمن البديهي أن لا نحترم انتماءنا. (إحصاء و إقصاء- جنسية و تجنس- مواطن و أجنبي) مصطلحات جديدة يتطلب العمل بها التجديد معها, و تبصر مفاهيمها أو فهم مقاصدها. ومواكبة التطورات التي أدت إلى استخدامها دون أن ننسى واقعنا, متمسكين بأخلاق ديننا الذي يحث على التشاور و التسامح, و التآلف بين جميع عناصر مجتمعنا.
لا جدال في أننا أبناء الفاتحين و الأفارقة الأصلين, و حاملي لواء الثقافة العربية والإفريقية و سدنتها فخرا و اعتزازا. تجانسنا و اختلاف ألواننا لم يكن يوما سوى مصدر قوتنا, الذي حاربنا به الزمان و شيدنا به المكان. صحراءنا مترامية الأطرف, وأرضنا شاسعة و واسعة, وقلوبنا أوسع. لا جنسية و لا عدم الحصول عليها يجب أن يفرق بيننا. و عيب كل العيب أن يفكر أحد منا في ذلك.
أ هذا ما تركه الأجداد( زنوجا و عرب )؟ عانوا الكثير و تجاوزوا الصعاب من أجل أن تبقى موريتانيا محافظة على تراثها الثمين, المتمثل في السلم والأمان. حسدنا الأجانب عليه, وحاربونا بمختلف الوسائل من أجل التخلي عنه. تنازع هنا وتناحر هناك, أحتكينا بهم فنسينا هويتنا. تعلموا منا : البساطة وطيبة الروح و الانفتاح السلمي, و أخذنا عنهم : التطرف و الشغب, و حب التظاهر في ثوب الديمقراطية و الدفاع عن حقوق الإنسان. و كأن ديننا الحنيف لم يحثنا على ذلك. لكن تخلينا عنه فلم نعد نفرق بين ما يحث عليه و ما ينهى عنه. فقد وصفنا وصفا دقيقا في عملية إحصاء كاملة و شاملة حين قال : ( كنتم خير أمه أخرجت للناس, تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).
أحداث كيهيدي و مقامه, و أحداث نواكشوط. ألم نستخلص العبر من التاريخ و مأساة 1989, و ما أدت أليه من قتل و نفي, و من تفرقة بين الأحبة و الأهل, و الأصدقاء؟. لماذا كل ذلك؟, ما هي الأسباب و الدوافع؟, لماذا كل هذا الحقد بيننا ؟. فهل فات علينا أن هذه أرضنا جميعا ورثناها عن آبائنا و سيرثها أبناؤنا عنا إن شاء الله؟, فيها ولدنا, و عليها نعيش, و فيها نموت, و نبعث يوم يبعثون.
أخي المواطن, أخي الموريتاني من دمي ولحمي, مصدر قوتي و اعتزازي. متى كان اللون مهما؟ و متى كان التصارع حلا؟ لا أحد يشك في جنسية أحد, و لا يمكنه ذلك. أناشدك بالله أن تتحلى بضبط النفس, وتحكم الضمير, و تتصالح مع ذاتك. كلنا عابر سبيل, فالحياة عبارة عن مسرح كل منا يلعب فيه دوره ويختفي. والمواطن كالسمكة لا تعيش خارج البحر, ولا يعيش خارج أرضه. و عابرة هي الأحداث مهما كان حجم وقعها, و قوة من يكون وراءها.
و تبقى موريتانيا- قبل و بعد كل شيء- ثابتة و واثقة من نفسها, كالشجرة اليانعة جذورها في الأرض و رأسها مرفوع و شامخ في السماء, دامت لنا وطنا و دمنا لها أوفياء.
alarbibettar@yahoo.fr
– أستاذ بجامعة نواكشوط –