منظمة الشفافية تندد باعتقال رئيسها وتطالب بإطلاق سراحه :|: تكوين لمفوضي وضباط الشرطة حول القوانين المجرمة للعبودية :|: منظمة الشفافية تندد باعتقال رئيسها :|: اتفاق مع شركات عربية لاستغلال حقلي "باندا" و "تفت" للغاز :|: توقيف 10 منقبين على خلفية أحداث “الشكات” :|: الناطق الرسمي : تأثرت بعض الخدمات الآساسية في الحوض الشرقي بسبب تزايد أعداد اللاجئين :|: مباحثات موريتانية كونغولية :|: توقعات بارتفاع أسعارالنفط العالمية :|: مدير : الحكومة صادقت على إنشاء آلية وطنية لضمان احترام حقوق الضحايا :|: بيان صحفي حول المصادقة على خطة العمل الوطنية لمحاربة الاتجار بالأشخاص :|:
أخبار
اقتصاد
تحقيقات وتقارير
مقابلات
منوعات
الرأي
مواقع

الأكثر قراءة

الموعد الأنسب لممارسة الرياضة في رمضان
من هو الرئيس السنغالي الجديد؟
مرسوم يحدد صلاحيات الشرطة البلدية
تعيينات هامة في قناة الموريتانية
الاعلان المشترك : شراكة استراتيجية تؤسس لعلاقة جديدة *
توقيف لصوص سرقوا 60 مليون أوقية من شركة بنواكشوط
الوجيه والسياسي عبد الحي ولد محمد لغظف يطالب من مقاطعة تامشكط بمأمورية ثانية لرئيس الجمهورية
ما أقصروأطول ساعات الصيام في رمضان 2024/1445؟
دولتان عربيتان بين أكبرمنتجي ومصدري الطماطم عالميا
ثلاث وفيات في حادث سير لسيارة تهرب ذهبا
 
 
 
 

الإسلام السلفي، حكاية متجددة.. إضاءة حول الإسلام والدولة والمجتمع في الصحراء

jeudi 28 octobre 2010


الصحراء الكبرى بحر واسع من الرمال، ليست له حدود واضحة المعالم، لكنها بالتقريب "من الشرق يتمثل الحد الطبيعي للصحراء الكبرى في نهر النيل، وفي الغرب في المحيط الأطلسي. وفي الشمال تمتد الصحراء إلى الهضبة الليبية وصحراء سرت وجبل نفوسة وجبال أطلس الصحراوية ووادي درعة، فتضم بذلك المراكز التجارية القديمة في شمال الصحراء : مثل فزان واغدامس و ورغلة وسجلماسة التي ازدهرت بفضل التجارة مع بلاد السودان.

أما الحدود الجنوبية للصحراء فتمر تقريبا بمصب نهر السنغال وأعلى منعطف نهر النيجر وتشاد، ضامّةً هضبة إنيدّي لتصل ثانية إلى نهر النيل عند خط عرض 16 شمالا.

ويؤدي الجفاف ونقص الماء إلى قسوة المناخ الصحراوي وكون مساحات شاسعة من الصحراء غير مأهولة مثل المجابة الكبرى في غربي الصحراء والصحراء الليبية غير مأهولة بالمرة، لكن رغم ذلك ظلت الصحراء ممـرا للتجـارة والبشر بين بلـدان افريقيـا الشمالية وبـلاد السودان جنوبا.

كان سكـان الصحـراء مـنـذ الـقـرن الـثـاني الهجري (8م) إلى ق (6هـ/12م) يتـألفـون من عنـاصر شديـدة الاختلاف. فكان يقطن الصحراء الغربية والوسطى أقوام من أصل أمازيغي « بربري » مختلطون أحيانا بدم أفريقي من السود. أما الصحراء الشرقية، بما فيها الصحراء الليبية، فكان يقطن جزءها الشمالي سكان من أصل أمازيغي « بربري » أيضا بينما يقطن جزءها الجنوبي أقـوام أشبه بالزنـوج ينتمون إلى جماعات من التـوبـو، مثل الزغـاوة والتيدة والدزة.

كان سكان الصحراء البربر الذين لعبوا دورا مهما للغاية في إقامة العلاقات بين شمال أفريقيا ومصر من ناحية والسودان من ناحية أخرى ينتمون إلى فرعين من البربر، وهما فرعا صنهاجة وزناتة. وكان الصنهاجيون على الأخص رحّلا يربّون الأغنام والإبل. أما زناتة فكانوا قسمين أحدهما رحّل والآخر من المستقرين.

وقد أسلم الفرعان الأمازيغيان « البربريان » على نحو مختلف تبعا لمسار الفتوحات وخيارات المذهب، فكانت الأباضية مذهبا مرغوبا لدى الزناتيين بينما اختار صنهاجة الإسلام السني منذ القرن الهجري الثاني لكن لم يتعمق إسلامهم إلا مع المرابطين.

وإلى صنهاجة ينتمي شعب التوارگ (وشهرته : الطوارق)، وهو مجموعة من قبائل الأمازيغ من قبائل قديمة كالجرمنت، ومن قبائل أخرى من لمتونة وگدالة ومسّوفة وزناتة ولمطة.. وتنتشر بينها مجموعات عربية (الأنصار الأندلسيون ضمن كل ـ أنصار، والشرفاء ضمن إيفوغاس..وغيرهم كثير)، وكذا قبائل كثيرة انتشرت في غرب الصحراء التي تشمل ما بين واحات اتْوات الجزائرية الحالية شرقا ووادي نون من بلاد قبائل تكْنة في المغرب شمالا ومن مصب نهر السنغال غربا إلى عقفة نهر النيجر شرقا. وفي هذا المجال الواسع انتشرت هجرات أمازيغية « بربرية » قديمة وحديثة وجاءت موجات عربية هلالية واختلط الجميع بفعل الحروب والهجرات، لكن بصورة أوضح في المجال الموريتاني وأحوازه من مالي الحالية.

الصحراء الكبرى اليوم، بلاد واسعة مترامية الأطراف، تسكنها شعوب مختلفة، أشهرها الملثمون وبقيتهم اليوم في التوارگ، الذين يسميهم جيرانهم :العجم، (الأعجام)، إشارة إلى لغتهم الأمازيغية، ولثامهم التارگي، جهلا بحقيقة أصولهم الصنهاجية ـ المرابطية وتجاهلا لتراثهم الإسلامي العريق الماثل في مئات العلماء والشعراء والقادة والأعيان والمدن والأحداث الجسام قديما وحديثا إلى أيام الغزو الفرنسي.

وهو تنكر للروابط التي جمعت منذ عهود سحيقة قبل الميلاد، بين الأمازيع والعرب والزنوج وغيرهم، وما اتصل بينهم من التجارة والهجرات والحروب وتواشج بينهم من الأنساب والأرحام. كما عرفت الصحراء ولاسيما في بلاد مالي والنيجر وجود قبائل عرب بني حسّان مثل البرابيش من عرب الرحامنة و أولاد اشْبل واعْريب والجعافرة.. والقبائل العربية الأخرى مثل كنْتة وياداس وتاگاط وتجكانت والشرفاء... فضلا عن وجود زاوية الشيخ سيدي المختار الكُنْتي ت1226هـ التي تعتبر أهم مؤسسات الإسلام والعربية في الصحراء الكبرى بعد المرابطين إلى الغزو الاستعماري الفرنسي لعقفة نهر النيجر.

وقد أنتج ذلك جهلا بالصحراء لدى عرب اليوم، فلا يكاد يعرف الصحراء إلا القلة من الباحثين والمهتمين، بالرغم من أهمية التراث العربي الإسلامي في بلاد الصحراء، ودرجة المخاطر التي تتناوله على يدي الفرانكفونية والصهيونية والنصرانية التي احتوشت الصحراء وأهلها، حتى تمكن منهم قمع وبطش العصابات العنصرية الزنجية التي تحكم مالي والنيجر وتصب حقدها الأعمى على قبائل التّوارِگ والبيِضان، نكاية في الإسلام والعربية وإنفاذا لمشاريع الأجنبي.

لقد ظلت الصحراء الكبرى في العصر الإسلامي الوسيط، محط رحال الجغرافيين والرّحالين العرب والمسلمين، وصفا ودرْسا وذكرا، بواسطة أو بغير واسطة. كما هو شأن المهلّبي، الفزاري، ابن حوقل، اليعقوبي، ابن رستة، ابن الفقيه الهمداني، البكري، العمري،... وقد تركوا مادة خصبة عن التواريخ والأشياء والناس والصفات والصلات والعلاقات، ظلت معينا لا ينضب للقادة والولاة من عرب الأمصار لاسيما في مصر وأفريقية والمغرب، ودليلا معينا للتجار والمسافرين.

واهتم مؤرخو المشرق والمغرب بدول الصحراء وحكامها وأهلها، لاسيما مع ظهور دولة المرابطين التي تركت أصداء متجددة في محيطها الأصلي، وفي مصادر المشارقة كالكامل لابن الأثير وصبح الأعشى للقلقشندي وحسن المحاضرة للسيوطي وغيرها كثير، وفي تواريخ المغاربة كالعبر لابن خلدون والبيان لابن عذاري واللائحة تطول.

ويبقى أهم مصدر عن تاريخ الصحراء في تلك الحقبة، هو الأنوار الجلية في أخبار الدولة المرابطية لابن سعيد الصيرفي كاتب المرابطين في أُخْريات أيّامهم، وهو مصدر قيم لكنه مفقود.

لقد بدا لدينا في بحثنا حول المرابطين، منذ أن كانوا حركة إلى أن أصبحوا دولة، أنهم ظلوا ضحية لمظاهر مختلفة من الحيف منها التشويه الموّحدي، مرورا بالنقد الاستشراقي الغربي، وانتهاء بالتقصير العلمي من مؤرخين استندوا للروايات التقليدية وركنوا لمناهج بالية وفاتهم حظ الإطلاع على الوثائق والروايات الغميسة المجهولة التي لم يكن بمكنتهم معرفتها بحكم المسافة المادية والمنهجية التي تفصلهم عن السياق التاريخي والسيسيولوجي الصحراوي، فليس من بينهم من يعرف لهجات الأمازيغ من صنهاجة والتوارگ وليس فيهم من هو على صلة بالقبائل وأعرافها وعاداتها، فضلا عن منهجية التاريخ السردي التقليدي التي طغت على أعمال مؤرخين مرموقين مثل : عبد الله عنان، شوقي الجمل... وغيرهما.
لقد تمهّد لنا اليوم، أن حركة المرابطين، كانت نتاجا لمسار تاريخي معقد ماثل في ثلاثة عوامل رئيسة هي :

• اتحاد قبائل صنهاجة من جديد على النحو الذي ظلت به تتكتل في دولة متماسكة منذ الفتح الإسلامي وربما قبله. حيث ذكر اليعقوبي والبكري وابن حوقل وغيرهم وجود دولة صنهاجية يحكمها ملوكها من عشيرة الأنباط، منذ القرن الثالث الهجري على الأقل. وكانت تتفكك كلما دب الوهن في جسم الوحدة بين قبائل صنهاجة لهذا السبب أو ذاك، خصوصا حين يموت زعيم مكث في الملك مدة مديدة. ولذلك كانت دولة المرابطين في مهدها الأول والأصلي صحراء الملثمين (موريتانيا وما يلاصقها) استمرارا لتلك الكيانات السياسية القديمة التي كانت قائمة في بلاد صنهاجة الشرقية (إقليم الحوض من جنوب شرقي موريتانيا) حيث كانت تمر القوافل وحيث نشأت المدن والحضارات، ثم أن الدول لا يمكن تفسير نشأتها إلا بوجود نهر أو مركز تجاري وبشري، وهو حال المرابطين هناك مع فارق واحد هو وجود عامل ديني أسمى !

• يظهر من ترجمة عبد الله بن ياسين وتراجم شيوخه ومن اتصلوا بهم، أن نشأة المرابطين كانت وثيقة الصلة بمسعى توحيدي قادته شبكة من الفقهاء المالكيين في المغرب الإسلامي وربما اتصلت بعلماء من أشاعرة المشرق. ولذلك فقد أدت الدعوة التي قادها ابن ياسين إلى جعل العامل القبلي العصبي يخضع لحكم الدعوة الدينية، فظهرت فكرة المرابطة ضد الوثنيين والمبتدعين والرافضين للدعوة، ولذلك سماهم ابن ياسين بالمرابطين وهو شعار لأهل الرباط الذي لم يكن مكانا ولا رابطة قائمة في بناء، بل هو شعار مستوحى من قوله تعالى : ﴿وأعدّوا لهم ما اسْتطعتُم منْ قُوّة ومنْ رِباطِ الخيْل..﴾، ولم يكن أبدا موضعا قرب نهر أو بحر، تغمره الأمواج في الشتاء وتنحسر عنه في الصيف.. إلى آخر الرواية التي ساقها ابن خلدون بلغته الفضفاضة المفعمة بتصوره عن الرباطات المستقرة المبنية الماثلة في المغرب آنذاك. والغريب أنه لم يرد أي ذكر لرباط محصن أو قائم في الصحراء أيام المرابطين، لا في المصادر التي عاصرتهم ولا في الكتابات التي جاءت بعدهم، بل تواتر جلها على ذكر المرابطين نسبة للمُرابطة والجهاد، وهو حال شعار الموّحدِين المتأتي من خيارهم العقدي الأقرب "للحق"، في نظرهم، من "تجسيم" المرابطين، في إشارة إلى العقيدة السلفية. وتبقى رواية المُرابطة في جزيرة قرب المحيط، تسمى "تيدْرة" أو غيرها، ودعوة ابن ياسين رجاله بعد أن بلغوا ألفا... كل ذلك لم يرد في نص تاريخي موثوق ولم يؤكده البحث العلمي المعاصر، بل هي روايات وأخبار تغمرها الأسطورة ويخترقها النفَس المنَاقِبي وأغلب من يكررها جمهور الأخباريين المعاصرين المتطفلين على البحث التاريخي الجاد.

• صعود المحور التجاري الغربي، الذي سيسمى فرعه الرئيس، بعد قيام المرابطين، طريق اللمتوني أي المنسوب إلى حركة جهاد أبي بكر بن عمر اللمتوني ثاني أمراء الدولة المرابطين وأشهرهم في الصحراء والسودان. وقد نتج عن ازدهار تجارة القوافل عبر بلاد لمتونة تراكم للمال والجاه و وعي عصبي قوي سيعززه حج رئيسهم آنذاك يحي بن إبراهيم بن ترچوت اللمتوني (وهو المذكور خطأ باسم الكدالي).

لقد كانت دولة المرابطين، أهم دولة إسلامية عرفتها بلاد الصحراء الكبرى، حيث سيطرت على معهدها من بلاد الملثمين التي شملت ما بين ساحل الأطلسي غربا إلى تادْ ـ مكّة في مالي (السوق)، إلى تخوم غابات النيجر جنوبا، وإلى المغرب والأندلس شمالا بعد ذلك.

وقد مسح المرابطون الطاولة مسحا، كما يقال، حيث أشاعوا عقيدة السلف، التي كانت لبساطتها ووضوحها، أقرب لفطرة الصنهاجيين والسودانيين من عقائد الأشاعرة والأباضية والشيعة، المتأثرة بعلم الكلام والاعتزال، رغم أنها مدارس لها قيمتها التي لا تنكر في الفكر الإسلامي عموما وفي الصحراء خصوصا.

كما التزموا في الفروع مذهب مالك، وقضوا على كل الأحكام البدعية من بعض الأعراف والعوائد المخالفة كالعشور والمغارم، لكنهم سلكوا مسلك التشدد والتعصب للفروع وعدّوها أصلا لا يقبلون عنه بديلا، حتى اعتبر ذلك مأخذا على فقهائهم، فلهج خصومهم بالتنكيت عليهم نثرا وشعرا :
أهل الريّاء لبسْتمو ناموسَكم كالذّئب أدلْج في الظلام العاتم

فملكْتمُو الدنْيا بمذْهب مالكٍ وقسمْتُموا الأمْوال بابْن القاسِم

وركبْتُمو شُهْب الدّوَاب بأشْهبٍ وبأصْبغٍ صُبِغَت لكم في الْعالم
وعليهم، أيضا، شدّد النّكير داعية الموحّدين محمد ابن تومرت الهرغي المصمودي، فكان ذلك من أسباب نهايتهم، حيث ظل ينعتهم بالمجسّمين، إشارة إلى سلفيتهم، حسب رأيه، ويصفهم بالزراجنة، قدحا في نبالتهم ومدنيتهم.
لقد ورث أهل الصحراء الكبرى من دولة المرابطين، فقها مالكيا فروعيا، وعقيدة سلفية تحولت للأشعرية بعد ظهور دولة مالي وعنايتها بفقهاء مصر والمغرب، وانتقال كتب الفروع والعقائد الأشعرية والرقائق الصوفية، إلى تمبكتو و ولاتا ((ولاتة)) وغيرها من حواضر الإسلام في الصحراء.
لكن انهيار دولة المرابطين في الشمال، أسدل ستورا غليظة من النسيان، وربما الإهمال، على تاريخ الصحراء وأهلها. فلم يتحدث الكتاب العرب، إلا نادرا، وبإشارات خجولة، عن تلك البلاد طيلة قرون، إلى أن بزغ نجم الدول الإسلامية في السودان الغربي ولاسيما دولة مالي ودولة سنْغاي اللتين كانتا من أبرز مظهر لتأثير الإسلام في الدولة والمجتمع والثقافة وهي أركان الإجماع التاريخي الماثل في المجتمع الأهلي ومؤسساته الدينية والمجتمعية التي تحوز الاستقلالية المؤسسية وتضفي الشرعية عل الحاكم ونظامه.
وقد وصف مؤرخو الصحراء من التوارگ والسودان والعرب، أيام ملوك مالي ولا سيما المنسّا موسى، صاحب الحجة المشهورة، بالعدل والرخاء، وبسطوا القول في مدح عهد الملك أسْكيا محمد وملوك الأسَاكي عموما (1493-1591م) بازدهار الثقافة العربية الإسلامية فيه وتقريب العلماء والتمكين للمؤسسات الأهلية لاسيما في خطط الدرس والخطابة والفتيا وركب الحاج والقضاء
ثم تغيرت أحوال البلاد والعباد، بعد سقوط تمبكتو، وغيرها من عواصم دولة سنغاي على يدي جند الدولة السعدية سنة 1591م، وانهارت مؤسسات الحج والقضاء والتعليم وتفرق العلماء أيدي سبا، لكن أفدت من ذلك مدن شرقي صحراء موريتانيا المسماة وقتها بلاد شنكيطي عند المشارقة، فازدهرت مدن القوافل لاسيما مدينة ولاتة (ولاتا)، مدينة تيشيت، مدينة شنكيط، ومدينة وادان،..
لكن ركاب الحاج ظلت تخب من تلك الحواضر وأحوازها، إلى الحجاز، مارة ببلاد المغاربة والمشارقة، على الرغم من غياب السلطان الجامع و بعد الشّقة ونأي القصد ومخاطر الطريق.

وقد أنتج ذلك صلات وعلاقات فكرية وحضارية راسخة، ماثلة في الإجازات والاستجازات في مختلف الاتجاهات، مما أثمر حقلا خصبا من وحدة أدوات الاجتهاد والتفكير والفتيا، بين مختلف علماء دار الإسلام لاسيما في بلاد شنگيطي والصحراء عموما وبلاد مصر والحجاز خصوصا.

السلفية في مواجهة الدولة والفقهاء :

لقد انتشر الإسلام في أفريقيا الشمالية والصحراوية بالفتوح وعبر التجارة، وكان الدعاة من عدة فرق سنية وأباضية، وتعددت المدارس الفقهية والعقدية من المالكية إلى المعتزلة إلى الشيعة... ثم حسم الأمر للأشاعرة والفقه المالكي في نسخته الفروعية الثانية.

تموج الصحراء الكبرى اليوم بظاهرة الإسلاميين المقاتلين، المنتمين إلى ما يعرف بالسلفية الجهادية، تحت مختلف الحركات والجهات كالقاعدة وغيرها.

ويجري الحديث عن خطر المد الوهابي في المغرب الكبير، ومخاطر التغلغل الشيعي، ويتم التشديد على أهمية "الوحدة" المذهبية والعقدية بالأشعرية والمالكية، في وحدة البلاد والعباد، لاسيما في مواجهة السلفية.

بغض النظر عن الصراع المسلح وحمولاته العقدية وخلفياته الاجتماعية، تبقى السلفية أقدم مما يتصور البعض، فلها حضور قديم في القيروان حيث انتشرت وبسرعة خلاصة يسيرة لكنها مقبولة على نطاق واسع هي رسالة ألفها ابن أبي زيد القيروان ت363هـ وفي مقدمتها طائفة صالحة من العقد السلفي الصرف ! ظهر تأثيرها واضحا في عقائد المرابطين من أتباع ابن ياسين في النصف الثاني من القرن الهجري الخامس، حتى اشتهروا بأسماء من قبيل : الزراجنة؟ المجسّمة؟ وغيرها من الأسماء القدحية التي أطلقها عليهم ـ في الغالب ـ خصومهم من الموحّدين.

كان المرابطون سلفيين متشدّدين حسموا الخلاف مع الخصوم بالسيف والرمح، ولم يدخلوا في جدال ولا مساومة، وتنكبو سبيل اللهو والأشعار، فجاسوا خلال طرقات سجلماسة قتلا لمن لم يدخل في رابطتهم (لم يقبل شعار الحركة= التبرؤ من الأفكار الأخرى)، وتحطيما لآلات الموسيقى واللهو، ومن هنا ورث الموسيقيون في الصحراء اسمهم من تلك الوقعة : إيغيوي= الغاوي، إحالة على الوصف القرءاني للشعراء : "الغاوون"، وبقي المثل القائل إن المرابطيّ لايصحب الإيغيوي (الغاوي) وهي اليوم بالنطق البربري الصرف : إيگيو !

بالطبع سينتصر العقد الأشعري والمالكي بسيطرة طبقة من الفقهاء الصنهاجيين والعرب، في ظل دول سودانية وثيقة الصلة بالمشرق عبر الحج والرحلات والتجارة : دولتا مالي وسنغاي، ثم تحت سلطان عرب الصحراء من بني حسّان ومن لف لفهم من لمتونة.

وظلت طبقة الفقهاء التي ظهرت في المدن الشهيرة : ولاتا، تيشيت، شنقيط، وادان... وفية للنهج القديم، فمنعت كل رجوع للسلفية العقدية أو لما قد يمهد لها من درس للقراءان والحديث، حيث ظلا منبعا للتبرك وللسكينة عبر ضروب الأذكار والحفظ والقراءة، لا أكثر ولا أقلّ.

ظلت نزعة "التجديد" العقدي والمذهبي، خطا أحمر لا يجاوزه أهل العلم إلا قليلا، ومن وراء ستار سميك من الكتمان والتجوّز، وكان مصير من يجاوز تلك المسافة جانب من التبديع والإقصاء والتكفير.

بقيت السلفية تقض مضاجع الفقهاء وتخيف أهل الحرفة العلمية في المدن والمضارب البدوية، تتسلل عبر الحركات المهدوية المسلحة، وبمكر عجيب، وتطل تارة من باب نقد البدع والخرافات حين يشتد عود الدعوة للإصلاح مع هذا العالم أو ذاك كما هو الحال مع رمز التجديد الإسلامي في الصحراء الشيخ المختار الكنتي الكبير. ولم تختف السلفية بل ظلت هناك، خصما لإسلام الفقهاء وعنصرا مزعجا للحاكم ومؤسسته الدينية.

يخطئ من يعتقد أن الإسلام المالكي والأشعري ضعيف بدرجة ضعف الدولة الوطنية من حيث فاعليتها التحديثية، بل العكس صحيح، هو إسلام قوي لكنه متقادم من حيث مؤسساته وبُناه، ولم يستجب لدعوات التجديد والإصلاح إلا قليلا، وشهد أزمته الأولى مع سقوط الأندلس ثم مع النازلة الاستعمارية التي حيرت الفقهاء فنفروا من تقعيدها وتأصيلها، مع استثناءات قليلة، أغلبها ردود أفعال اكثر منها نظرا فقهيا مؤصلا.

كانت سلفية بابا بن الشيخ سيديه ت1924م رفضا لسلطة الفقهاء واكتشافا لمجال تأويلي أوسع يسمح بالمناورة أمام المخالف في الملة، وقد كان !
ولكنه لم يخرج على سنن من سبقوه، فكلهم كانوا يجيزون معاملة مستغرق الذمة جزئيا، لكنه نظر فقهي قابل لأن يؤول في النهاية إلى قبول حكم المخالف في الملة، إن اقتضت الضرورة ذلك !

وحده الشيخ ماء العينين ومن لف لفه من الفقهاء وأهل الشوكة، دخلوا في مواجهة العدو النصراني انطلاقا من اجتهاد مستند لواقع ماثل : سلطان المسلمين أقرب وطاعته أوجب ونجدته للمسلمين أولى. وقد شكل ذلك التيار مدرسة لها رأيها وعملها.

وهناك تيار ثالث هو جماعة الهجرة عن دار الحرب، أنفة من العيش في ظل الأجنبي، بعد أن تعذر جهاده بوجه منظم. لكنه تيار ارتبط بالمهاجر المشرقية ورهاناتها، وانقطع عن البلاد نهائيا.

لم يكن كامل فقهاء البلاد سلفيين مطلقا، بل كانوا أوفياء للإسلام السني المالكي الأشعري انطلاقا من التأويل الفروعي لطبقة الجيل الثاني من فقهاء الأندلس والقيروان.

يخطئ من يظن أن منابع تفكير أولئك العلماء تختلف أو جرى من الحوادث ما يغير مسار تقاليدها في الدرس والتفكير السائدين منذ القرن العاشر الهجري على الأقل.

لماذا توارت سلفية المرابطين، على رغم غياب التأثير الواضح للموحدين المُخلّطين : مهدوية واعتزال وأشعرية، ثم عودة للأصول لم تعمّر طويلا !
جواب نحن في طلابه، لكن الحقيقة الواضحة هي أن صعود السلفية في الصحراء الكبرى ليس حركة مسلحة فحسب، بل هو رهان فكري قبل أي شيئ آخر، ستكون له نتائج بالغة على صُعُد متعددة في قابل الأيام.
ـــــــــــــــــــــــــــ

* ـ حصلت لدي أنا شخصيا صحبة زميل لي، معرفة بمظنة وجود المخطوط منذ بعض الوقت ونرجو إكمال عملنا بتقديم العمل ونشره إن شاء الله.

*النفس المناقبي هو الرؤية المنبثقة عن المنْقبة وهي الكرامة وما يتصل بها.

حماه الله ولد السالم

عودة للصفحة الرئيسية

الصفحة الرئيسية   |   أضفنا إلى مفضلتك   |   من نحن؟    |   اتصل بتا