لم تكن زيارة قائد أركان الجيش الجزائري، الفريق أول السعيد شنقريحة التي أداها لموريتانيا مؤخراً والتي أرست آلية محكمة للتنسيق العسكري والأمني بين الجزائر وموريتانيا، من صنف الزيارات التقليدية التي تنسى يوم اختتامها.
ذلك ما أكده خبراء محللون مختصون لـ “القدس العربي” في تصريحات تقييمية منهم لزيارة الفريق أول شنقريحة لموريتانيا، مشيرين في هذه التصريحات إلى أن “أهمية الزيارة ونتائجها تتضح من خلال مناظير عدة، أولها الظرف التي اكتنفها والذي يتميز بخطورة الوضع في الساحل الإفريقي حيث تشتعل الحرب في مالي المجاورة، وتتقوى الحركات الجهادية المسلحة مستفيدة من الوضع، وحيث يتسع تدخل القوى الخارجية في المنطقة؛ كما أن الموقع العالي جداً الذي يحتله الفريق أول السعيد شنقريحة في الشأن الجزائري يجعل تنقله إلى موريتانيا دالاً” على توجه جديد.
وفي هذا السياق، تأتي الزيارة كخطوة مهمة نحو تعزيز التعاون العسكري بين البلدين اللذين شهدت علاقاتهما العسكرية والأمنية تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، في ضوء التحديات الإقليمية المتزايدة التي تواجههما.
ويقول الخبير الاستراتيجي أحمد سالم سيدي عبد الله، المتخصص في الشؤون المغاربية والإفريقية “إن الزيارة تظهر حجم التنسيق والعلاقات القوية بين موريتانيا والجزائر ومدى التطور الذي وصلت إليه في السنوات الأخيرة”.
وأضاف: “من نظر إلى ملف علاقات موريتانيا والجزائر في العقد الأخير يتضح له مستوى قوة العلاقة بين الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني وضباط الجيش الجزائري، أيام كان قائداً لأركان الجيوش الموريتانية، وهذا المستوى من العلاقة أعتقد أنه ساهم في تطوير العلاقات بين البلدين، وهو ما يتجسد اليوم في عدة أمور بينها الطريق البري قيد الإنجاز بين البلدين، والذي تتولى الجزائر تشييده، وهو طريق سيفتح الباب الإفريقي أمام الجزائر”. “لكن هناك عوامل أخرى، يضيف الخبير، دفعت العلاقات أيضاً إلى الأمام، من أبرزها الملف الأزوادي والتطورات الأخيرة التي عرفها هذا الملف بعد تخلي نظام باماكو عن اتفاقية المصالحة الموقعة عام 2015، وبعد تدهور العلاقات بين النظام العسكري في مالي والجزائر، ونزوح آلاف المواطنين الأزواديين إلى البلدين، بالإضافة إلى الوضع في منطقة الساحل بصفة عامة”.
وعن عدم الانضمام إلى التنسيق الجزائري الليبي التونسي، أكد الخبير سيدي عبد الله، “أن موريتانيا لم تنضم لهذا التنسيق الذي جاء بمبادرة جزائرية، لكنها في الوقت نفسه تمتلك علاقات مع الجزائر لا تقل أهمية عن علاقات هذه البلدان مع الجزائر، وموقفها من التنسيقية الثلاثية يتماشى مع موقفها المبدئي المتمثل في الحياد الذي يوصف في موريتانيا بالإيجابي، من الصراع بين الجزائر والمغرب”.
أما المحلل محمد سالم اليعقوبي الباحث الموريتاني المتخصص في قضايا الساحل والصحراء، فيرى “أن زيارة قائد الجيش الشعبي الوطني الجزائري الفريق أول سعيد شنقريحة لنواكشوط، تعتبر معلماً بارزاً في العلاقات العسكرية المتميزة بين موريتانيا وجارها الكبير، وهي علاقات تاريخية تعود إلى بداية عهد استقلال الدولتين، والشواهد على ذلك عديدة ومحسوسة وقائمة”.
وأضاف: “هكذا في سنة 1963، رفض قادة الجيش الشعبي الوطني الجزائري طلباً للمغرب يتعلق بتمكينه من استخدام معبر مدينة تندوف من أجل احتلال موريتانيا مقابل ترسيم الحدود مع الجزائر، لكن الجزائر الثورة، يضيف اليعقوبي، رفضت ذلك رفضاً حاسماً؛ وهذه النقطة ذكرها هواري أبو مدين في عدة مقاطع موجودة على “اليوتيوب” وذكرها من حيث التأصيل عبد اللطيف الفيلالي وقد ذكرتها في مقالي المعنون “الجزائر هي الخيار أو لا خيار”.
وقال: “وفي سنة 1974 وفي خضم تأميم مناجم الحديد “ميفرما” الذي هو أول قرار سيادي تتخذه موريتانيا بعد استقلالها، تم وضع وحدات من الجيش الجزائري في مدينة تندوف في حالة تأهب، حيث كانت موريتانيا تخشى من ردة الفعل الفرنسية على قرار التأميم انطلاقاً من القاعدة العسكرية الموجودة في دكار وذلك باتفاق بين رئيسي الدولتين المرحومين المختار ولد داداه وهواري أبو مدين، وبعد ذلك وفي سنة 1989 وخلال الأزمة مع السنغال التي كانت مؤامرة تستهدف الكيان الموريتاني بكل المقاييس، وقفت الجزائر بحزم كعادتها سياسياً وعسكرياً، مع جارتها القريبة موريتانيا”. وزاد: “وبالعودة إلى نتائج الزيارة فقد تم خلالها وضع آليات جديدة للتنسيق بين الجيشين، ما يعكس أهمية العلاقات الثنائية بين البلدين في ظل التطورات المتلاحقة التي تعرفها منطقة الساحل والصحراء والتي من أخطرها الأطماع والتدخلات الخارجية لأغراض مشبوهة؛ وأصدق دليل على هذه الخطورة ما جرى في ليبيا وما وقع في السودان مؤخرا”.
وقال: “وفي ظل هذه الوضعية المريبة والمربكة، وبما أن الجزائر تنظر إلى علاقاتها مع موريتانيا نظرة خاصة لا تحظى بها أي دولة في المنطقة، فإن موريتانيا في الظرفية الحالية المتميزة دولياً وإقليمياً، لا خيار لها من الناحية الاستراتيجية سوى التنسيق مع الجزائر لمواجهة متطلبات الاستقرار، والتصدي للإرهاب العابر للحدود، ومن هذا المنظور فإن الجزائر بالنسبة لموريتانيا هي الخيار أو لا خيار”.
وقال: “الزيارة استهدفت تنسيق الجهود لمواجهة التحديات الأمنية التي تشهدها المنطقة، خصوصًا بعد تفكك مجموعة دول الساحل الخمس التي كانت تشكل إطارًا أمنيًا إقليميًا، تطمئن له الجزائر من خلال وجود موريتانيا داخله في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة”.
وأكد الخبير محمد سالم اليعقوبي “أن الشراكة العسكرية والأمنية بين الجزائر وموريتانيا محورية لضمان الأمن في المنطقة؛ فالجزائر بجيشها القوي وخبرتها الطويلة في مكافحة الإرهاب، يمكن أن تقدم لموريتانيا دعمًا تقنيًا ولوجستيًا مهمًا، وفي المقابل، تلعب موريتانيا دورًا استراتيجيًا عبر موقعها الجغرافي الحساس على الحدود مع منطقة الساحل، وتعد خط دفاع أول ضد تمدد الجماعات الإرهابية إلى شمال إفريقيا”.
ويجمع متتبعو هذا الشأن على أن الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل التي تشهد تصاعد النشاطات الإرهابية، وانتشار الجماعات المسلحة في مناطق واسعة، لا سيما على الحدود الشمالية لموريتانيا والجنوبية للجزائر، تتطلب تعزيز التعاون الأمني بين البلدين، خاصة في مجالات تبادل المعلومات الاستخباراتية، ومراقبة الحدود، ومكافحة التهريب والجريمة المنظمة. وقد ظلت الجزائر دائمًا فاعلًا رئيسيًا في تعزيز الأمن في المنطقة، خاصة عبر مبادراتها الدبلوماسية والأمنية، كما برزت موريتانيا كواحدة من الدول التي حافظت على استقرارها النسبي في بيئة إقليمية متوترة، ما يجعلها شريكًا استراتيجيًا للجزائر في المنطقة.
وقد ظلت الجزائر دائمًا فاعلا رئيسيًا في تعزيز الأمن في المنطقة، خاصة عبر مبادراتها الدبلوماسية والأمنية، كما برزت موريتانيا كواحدة من الدول التي حافظت على استقرارها النسبي في بيئة إقليمية متوترة، ما يجعلها شريكًا استراتيجيًا للجزائر في المنطقة.
ومع استمرار تدهور الأوضاع الأمنية في الساحل، يتوقع أن تتوسع الشراكة بين الجزائر وموريتانيا لتشمل جوانب جديدة، مثل دعم التنمية في المناطق الحدودية المتضررة من العنف، وتحسين القدرات اللوجستية للقوات المسلحة الموريتانية، كما يتوقع أن تلعب الجزائر دورًا أكبر في التنسيق الإقليمي بعد تفكك مجموعة الساحل، من خلال تحفيز الدول المجاورة على تبني مقاربات جديدة أكثر فعالية لمكافحة الإرهاب والتطرف.