الرئيس السنيغالي يختتم زيارته الأولى لموريتانيا :|: موريتانيا تشارك في اجتماع G7 :|: الأمم المتحدة : نلتزم بدعم التنمية في موريتانيا :|: اعتماد 56 بحثا للتنافس على جوائز شنقيط :|: لص يعيد المسروقات لأصحابها بعد 30 عاما !! :|: اجتماع اللجنة الوطنية للمنح :|: ولد غده يستنكر الإحالة لمحكمة الجنح :|: ترشيح سفير جديد للاتحاد الأوروبي للعمل في موريتانيا :|: أبرز ملفات زيارة الرئيس السنيغالي :|: نص مقابلة السفير الموريتاني بالسنيغال :|:
أخبار
اقتصاد
تحقيقات وتقارير
مقابلات
منوعات
الرأي
مواقع

الأكثر قراءة

من هو الرئيس السنغالي الجديد؟
مرسوم يحدد صلاحيات الشرطة البلدية
حديث عن تعديل وزاري وشيك بعد العيد
جنرالات يحالون للتقاعد مع نهاية 2024
وزيرسابق يستنكر سجن ولد غده
تصريح "مثير" لرئيس التحالف الشعبي
ما الأسباب وراء تراجع أسعارالغذاء العالمية؟
من يوميات طالب في الغربة(5) : أول يوم بالسفارة الموريتانية في تونس العاصمة
استعادة عافية الجنوب تعززعلاقة الأشقاء/ عبد الله حرمة الله
ثلاث وفيات في حادث سير لسيارة تهرب ذهبا
 
 
 
 

التغيير البناء وآفاق الخروج من حقبة الدولة الراعية للفساد / محمد فال ولد محمد أطفـل

mercredi 3 février 2010


ربما لم يكن المنبر الإعلامي الوطني قبل سنوات من الآن مواتيا بما فيه الكفاية بالنسبة للأصوات الملتزمة بالتعبير عن الحقيقة المجردة من الاعتبارات الضيقة كما لم يكن الضجيج المنبعث من منابر اللاهجين بالثناء والدعاء للنظام الحاكم أيا كان هذا النظام ليسمح لصوت الحقيقة الموضوعية بالارتفاع للوصول إلى مسامع الناس.

من هنا فإن أقلاما عديدة قد آثرت الصمت طيلة العقدين المنصرمين لأنه لم يطب لها الرقص على ألسنة اللهب التي كانت تلتهم (روما) بمعني أننا لم نشأ أو لم نستطع أن نكون (نيرونيين ) نتمايل طربا على سمفونية تعزف لحن موت أمة وتحلل مجتمع هي ذات الأمة التي أنجبتنا ونفس المجتمع الذي ننتمي إليه.أما وقد خرجنا عن صمتنا القسـري احتفاء ومواكبة للتحولات التاريخية الكبرى فنبادر في سياق الجزء الأول من هذه السلسلة من المقالات التي ننشرها إلى تشخيص وعرض ملامح وسمات الأزمة العميقة التي ارتكست فيها الدولة منذ أن طوق نظام الحكم السياسي البائد الذي حكم البلاد ابتداء من أواخر الثمانينات عنق المولود الفتي ( موريتانيا) بحبل مشنقة الفساد تاركا أقدامه تتدلى في فراغ روحي وأخلاقي رهيب ورغم أن إدراك هذه الحقيقة الصارخة ظل يمثل قاسما مشتركا بين النخب الوطنية بمختلف أطيافها بدءا بالطبقة السياسية وانتهاء بالانتلجانسيا ورجال الدين إلا أنهم تقاسموا في نفس الوقت التهافت على المغانم المرتبطة بهذا الوضع الشاذ فعملوا على تقديمه في صورة المثال الذي طالما تطلع إليه الموريتانيين وصولا إلى تأليه هرم النظام البائد واتخاذ مقربيه وأعضاء بلاطه وأفراد حاشيته أصنام تقرب زلفي إليه وتمنح الجوازات للراغبين في ولوج جنة النظام والقادرين على ذلك ، وقد غدا اكتساب المهارات التي تكفل تحقيق هذه القدرة رهانا أساسيا يتسابق الجميع للفوز به وهو ما يفسر في نظرنا إلى حد كبير انهيار المعيارية الأخلاقية ذات المرجعية الدينية التي كانت تحكم مجتمعنا وتفكك منظومة السلوك المدني والوطني التي كانت هشة بحكم أنها ما تزال في طور التشكل ولم تكن قد ترسخت بعد في مجتمع يجتاز حالة البداوة والفوضى إلى مرحلة التحضر والنظام.

استنطـاق للماضي : لماذا أصبح التغيير حتمية تاريخية؟

وتبعا لذلك تمت الاستعاضة عن قيم الالتزام والنزاهة وتحمل المسؤولية والتفاني في أداء الواجب واحترام التشريعات والنظم بثقافة رخوة تتعارض كلية مع هذه المعايير، بحيث تحول الأمر إلى فوضى فيما بدا أنه نوع من عدم الإيمان بأي قيمة سوى قيمة المادة وما تحمل عليه من ضروب التكسب دون اعتبار لمشروعية الوسيلة أو نزاهة المصدر وكأننا نتمثل عن قصد أو غير قصد القيم الفكرية التي نادت بها البرغماتية والذرائعية الأمريكية الحديثة وهي قيم تتأسس على النظر إلى قيمة الفكرة أو القاعدة الأخلاقية في ضوء الفائدة العملية والمرودية المادية المترتبة عليها فحسب.

وهكذا شهدنا انبثاق أفق نظري ومفهومي جديد ظل يفرز ويرسخ معايير الفعل الجديدة على نحو أفضى إلى وضع الفاعلين بمختلف تشكيلاتهم( سياسيين واقتصاديين ودينيين وثقافيين واجتماعيين) على نفس الخط وضمن الشروط ذاتها من حيث إنهم جميعا يمثلون تعبيرات يتطابق جوهرها عن الرؤية الإيديولوجية القائمة على تبرير الواقع وإضفاء المشروعية على ما يسود فيه من ممارسات دفعة واحدة، بل إضفاء نوع من القداسة على النظام السياسي القائم حينئذ ذاك أن جوهر القداسة هو وضع فكرة أو مبدأ أو قيمة أو ذات معينة فوق الشبهات والإيمان بالنفع التام والحكمة المطلقة الحاضرة في كل تدبير يصدر عنها، ما يتنافي مع منطق النقد أو حتى مجر إظهار التبرم وعدم الرضي وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا أن مصدر الأزمة الأخلاقية التي نشبت منذ أواخر الثمانينات مهددة كيان الدولة ومصير المجتمع هو هذا الخطاب الإيديولوجي التبريري الذي تضافرت في إنتاجه جهود الفاعلين المذكورين مدفوعة بإرادة سياسية عبرت عن نفسها في صورة إقامة لا دولة بمعناها الحصري الحديث وإنما دولة على مقاس شخص يريد أن يكون حاكما مطلقا فوق النقد ناهيك عن المساءلة والمحاسبة، وهكذا تقرر على مستوى قمة الهرم في السلطة السياسية التي حكمت البلاد على مدى العقدين المنصرمين وضع استراتيجية سياسية ممنهجة تقوم على تجفيف منابع النقد عبر تفكيك المعيارية الأخلاقية والمدنية الراعية لدولة القانون ومجتمع الفضيلة والخروج عن الأفق التصوري الذي يؤسسها وخلق إطار مرجعي بديل مفصل على مقاسات الإرادة السياسية الجديدة.

وضمن هذا الإطار تلاقت مصالح قادة الرأي وتصافحت أيديهم فوق جسد الأمة الممد على أرضية الفقر والجهل والمرض والإقصاء والحرمان يتبادلون التهاني على نخب موائد السلطان المفتوحة حصريا أمام من يجيد لغة التملق والمحابات والمداهنة وتمييع المفاهيم وتزييف الحقائق ونهب مقدرات الأمة ونشر ثقافة التزلف وعبادة الأشخاص ومن يستطيع الدفاع عن هذه السياسة الممنهجة وتأصيلها والبحث لها عن المسوغات والذرائع وتقديمها في صورة إيديولوجيا التقدم القادرة على الإرتقاء بموريتانيا من مهاوى التخلف إلى مدارج التحضر ولم يعد ثمة شك لدى أحد بأن الانخراط في لعبة التملق والانتفاع يمثل شرطا لازما للنفاذ إلى دوائر الثروة والسلطة، وفي مضمار هذا السباق المحموم تمت التضحية دفعة واحدة بالمحددات والضوابط المدنية والأخلاقية من قبيل الكفاءة والإلتزام والجدارة والنزاهة وقدمت قرابين في مشهد يندى له الجبين ستظل ذكراه تشعر الكثيرين بالخزي والتفاهة وهم مستغرقون في إرساء دعائم خطاب سياسي يتخذ من الفكر النفعي منهلا يمتاح منه ويجعل من أخلاق الاستهتار والأنانية والمغامرة واحتقار الضعفاء والبحث عن السعادة الفردية بأي ثمن ملهما أساسيا إذا ما أعرضنا صفحا عن القشرة الخارجية التي لا تعدوا كونها طلاء يوضع للتمويه. لقد تنافس رواد هذه المدرسة في طبعتها الموريتانية مذ تم وضع حجر أساسها خلال المنتصف الثاني من عقد الثمانينات في اكتساب المهارات والمؤهلات اللازمة للإنضمام إلى صفوف الفرقة الناجية أو التموقع غير بعيد من مداراتها وهو ما أدى إلى تخريج طواقم مكونة وفق منج ورؤية هذه المدرسة تغلغت في جسم ومفاصل الدولة تمارس هواياتها في قنص المال العام والمتاجرة بالنفوذ وتكديس الثروة وتكريس العدمية الأخلاقية والخضوع لإملاءات المصالح الضيقة والسخرية من كل خطاب إصلاحي بحيث غدى الحديث عن احترام المال العام أو وضع الشخص المناسب في المكان المناسب أو تطبيق مبدأ العقوبة والمكافئة أو العزل بسبب الخيانة أو نقد البرامج والإستراتيجيات أو مجرد التشكيك في جدوائية قرار أو مشروع ما منطقا مرفوضا بالمرة وشعارات فارغة يرددها المنبوذون ممن لم يجدوا نصيبا من الكعكة وعلامة على التطرف ومعاداة النظام وسباحة ضد التيار يمارسها هواة الصيد في المياه العكرة.

وقد ظلت أهم نقطة على برنامج عمل البطانات التي ارتكزت عليها أنظمة الحكم السابقة هي عزل رؤسائهم في غرف محكمة الإغلاق لكي لا يتسلل نور الحقيقة إلى داخلها ولا تدمغها أشعة شمس الواقع تتكسر على أبوابها الحديدية ومراياها الزجاجية أصوات المظلومين والمحرومين والعجزة والمرضى وذوى الضمائر الحية الملتزمين بقضايا مجتمعهم،

وبذلك يظل رئيس الجمهورية رهينة بأيدي هذه البطانات الإنتفاعية المهووسة بمصالحها الخاصة على نحو يجيز لنا التساؤل عما إذا كان الرؤساء السابقون رؤساء فعليون يمثلون مصالح الأمة العليا ويجسدون تطلعات الشعب إلى العدالة والتنمية أم أنهم مجرد زعماء شرفيين للوبيات تمثل الحاكم الفعلي للبلاد.

ولنترك السؤال معلقا مستعرضين أمثلة قليلة من سلوك هذه الزمر مع رؤسائها، ففي إطار سياسة عزل الحكام عن هموم شعبهم يتم التحكم فيما يبث عبر وسائل الإعلام وقنوات الإتصال وفق نظرة إنتقائية تختار الأخبار وتعرض المعلومات وترفع التقارير حسب قاعدة جلب الرضى والراحة لنفس الرئيس عبر إبقائه بعيدا عن الحقائق المرة المتعلقة بوضع شعبه، ويتم ترتيب الأمور فيما يخص المقابلات الخاصة بطريقة تخدم هذه الأجندة فيحرم الخيرون والإصلاحيون ممن يفترض فيهم امتلاك ذرة من ضمير أخلاقي أو وازع ديني أوحس وطني من فرص مقابلة الرئيس لتبقي حكرا على الإنتفاعيين ممن يجيدون لغة التملق والمحاباة. وتستمر لعبة التمويه والتستر على الحقيقة فتزحف جموع الإنتفاعيين كلما كانت هناك زيارة اتصال بالمواطنين ، حيث يتوارى الوجه الحقيقي للأماكن المزورة خلف حلة كاذبة من البهرج الاصطناعي يجرى نسجها لطمس الواقع ، وتتصدر الجُموعَ الحاضرة خطوط متراصة من ذوى القامات الفارعة والملابس اللامعة والوجوه النضرة تقف تلقاء وجه الرئيس مشكلة حاجزا منيعا ينتصب بينه وبين أحزمة الفقر والبؤس المتكومة في خلفية المشهد ، وينهي الرئيس كلمته وينفذ إلى سيارته فيتحرك الموكب إلى الكوكب المعد لإقامته لتبدأ فعاليات السهرة الليلية الباذخة ثم تتجدد عملية انتشار طوابير الإنتفاعيين وآلياتهم حسب تضاريس وطبيعة المكان التالي على جدول الزيارة.

ويعود القائد إلى القصر الرمادي معتقدا أنه التقى بالمواطنين في قراهم ومدنهم وتحدث إليهم وجها لوجه واطلع على مشاكلهم وأصغى إلى همومهم ومطالبهم والحقيقة أن الذين ألتقاهم وتحدثوا إليه هم لوردات الفساد وأتباعهم المنتفعون من فتات موائدهم فماذا عساهم يقولون؟ وأية مشاكل أو هموم ينتظر منهم طرحها؟ إنهم يدركون أنهم منتدبون لإنجاز مهمة محددة تتمثل في مواصلة لعبة الانتفاع من خلال طمس الحقائق وقلب المفاهيم ورسم صورة أسطورية لنهضة حضارية مزعومة أخلت البلد من الفقراء والمهمشين وحررته من الجهل والأمية والمرض وجعلته يعيش عافية وأمنا مصدره الرخاء الإقتصادي الذي لم يدع في النفوس مرارة ففاضت حنانا وعرفنا ورتلت ذلك أناشيد ورسمته لوحات بديعة تعرض أمام أنظار الرئيس كل ذلك ليظل في حالة عمى وتيه عن واقع مواطنيه وحال شعبه فتظل أيدي الفاسدين طليقة تنهب المال العام وتكدس الثروة الحرام وتشيد مجدا زائفا على أنقاض مجتمع منهوك خائر القوى. إن الممارسات التي طبعت عقدين ونيف من الفساد والإنحراف الأخلاقي والتقهقر الحضاري ليندى لها الجبين، وهنا تستصرخنا مئات الأمثلة للتوقف عندها فإذا ما استحضرنا مثالا واجدا وليكن مسألة محو الأمية التي مثلت خيارا أساسيا من خيارات نظام الحكم السياسي البائد فإنه من الصعب أن نصدق أن حصاد تلك المعركة حسب حصيلة موضوعية يساوى لا شيء تقريبا رغم عقدين من خطط العمل والحملات المزعومة وقوافل المثقفين التي تجوب البلاد طولا وعرضا باسم التوعية حول مخاطر الأمية تارة ونشر ثقافة المطالعة وإدخال الكتاب إلى كل بيت تارة أخرى، بيد أنه -كما يقال – إذا عرف السبب بطل العجب فحتى المسئولون عن القطاع أنفسهم لا يجدون غضاضة في الإقرار في حينه ودون خجل بأن جميع أولئك الذين تحضر الكاميرا وميكروفون الإذاعة الوطنية لتغطية تخرجهم من فصول محو الأمية هم من المتعلمين المتطوعين يؤدون أدوارا أسندت إليهم في إطار مسرحية تعرض أمام أنظار الرئيس ، أما القطاع نفسه فلا يعدو كونه مصيدة من بين مصائد أخر لإستدرار الدعم وجلب التمويل الخارجي وملاذا يقيم فيه موظفون إداريون ومعلمون مع وقف التنفيذ وما ينطبق على قطاع محو الأمية قد انسحب على جميع البرامج والمشاريع الأخرى وهو ما يمثل ثمرة طبيعية لغياب الإرادة السياسية الجادة والمسئولة وسوء التخطيط والتسيير وانعدام الرقابة والمتابعة وتعطيل مبدأ المساءلة والمحاسبة والعقوبة والمكافأة واعتماد سياسة التراضي وتقاسم المنافع بين زمرة من الإنتفاعيين والسماسرة يتحركون بحرية مطلقة في أجواء من الدعة والأمن التام ويتصرفون خارج حدود الضوابط والإكراهات القانونية ومستلزمات المصلحة العامة وقواعد الحكم الرشيد ودولة القانون يبددون ثروات الشعب وينهبون خيراته بلا رحمة وبنهم لا حدود له وهم محميون بحصانة الولاء للسلطة السياسية التي تضمن لهم ليس فقط الإفلات من الرقابة والمساءلة ناهيك عن العقوبة والمساءلة وإنما أن يكونوا أشخاصا فوق القانون وفوق مبدأ المؤسسية الذي تقوم عليه الدول، فالولاء للسلطة والتفنن في أساليب خدمتها وتبرير ما يسود من مظاهر فساد وانحلال ونهب للمقدرات العامـة وتزييف الحقائق وقلب المفاهيم وإجمالا إتقان ثقافة التملق والمحاباة والزبونية والإنتفاع بكل الوسائل أضحت بمثابة اللعبة الحاسمة التي يتعين على الراغبين في المشاركة السياسية والكسب المادي السريع الإنخراط فيها واستيعاب قواعدها والتمكن من أصولها. يتعلق الامر إذا بمدرسة تم إنشاءها عن سبق إصرار ونية من طرف أنظمة حكم يقودها تحالف من الانتفاعيين والمتمصلحين وراحت تكون وتخرج دفعات متلاحقة من الفاسدين كان يجري زرعهم في جسم ومفاصل الدولة إدارة ومجتمعا ومرافق حيوية، وفي ضوء هذا الواقع بات الكل مدركا أن معايير التوظيف والمشاركة والثراء لايحددها المؤهل العلمي ولا الرصيد المعرفي ولا الخبرات الموضوعية وإنما يحددها الولاء المطلق للنظام السياسي ومدى القدرة على الدفاع عنه وتلميع صورته. فضج المشهد السياسي بأسطوانات كان يتم إنتاجها في غرف صناعة ثقافة التملق والمحاباة ويتلقفها السماسرة والمنتفعون من الفساد في إطار لعبة قذرة أباح الكثيرون لأنفسهم الانخراط فيها بعد ما تم تحطيم المنظومة القيمية التي كانت تشكل صمام أمان ضد الانحراف ومصدر رؤية. لنشهد وبرعاية وتوجيه رسمي من النظام السياسي الذي حكم البلاد حتى وقت قريب ميلاد خطاب سياسي يستلهم أطروحاته من الأسس المنحرفة التي أقيمت عليها المدرسة آنفة الذكر، ليكون هذا الخطاب إطارا للنظر وموجها أساسيا للتفكير بغية ملاءمة الضمير الجمعي للأمة مع نهج الفساد الذي أرساه نظام الحكم السياسي البائد، وهو نهج بلغ حدا من الرسوخ والإستحكام أقنع الكثيرين بأن اجتثاث الفساد مستقبلا من البلاد سيكون أمرا بالغ الصعوبة إن لم يكن ضربا من المستحيل.

ضوء في آخــر النفق : بداية عهد المواطن

وفي غمرة الضجيج والتطبيل المنبعث من حلبات المتنافسين على كعكة النظام برز على سطح الحياة العامـة المشروع الإصلاحي الراهن الذي يقوده الرئيس محمد لد عبد العزيز والذي بدأت ملامحه في التشكل منذ فجر الحركة التصحيحية الممهدة للانتخابات العامة 18/07/2009 متخذا من مكافحة الفساد والتصدي لظواهر نهب المال العام وسوء التسيير ومحاربة الفقر المستشري مرتكزات أساسية لبرنامجه الإصلاحي بعدما مثلت هذه الأطر النظرية محور خطاب سياسي حاز على ثقة ورضا غالبية الموريتانيين الذين التفوا حوله مشاطرين ولد عبد العزيز قناعته الراسخة بأن أزمة موريتانيا الحقيقية و مرضها العضال إنما يكمن في الفساد المالي والإداري والأخلاقي والمؤسسي والسياسي الذي ينخر جسم هذا الكيان ويعشش في خلاياه ويتلف أجهزته منذ أمد بعيد وأن التصدي للفساد بكل صوره وتجلياته ينبغي أن يكون رهان الساعة باعتباره معوقا جوهريا لا سبيل إلى التحرك قبل إزالته . إن نجاح الرجل في استقطاب ثقة غالبية الموريتانيين يعود إلى هذه الرؤية المتبصرة والتشخيص الصريح لأمراض البلد أولا ثم إلى الوعود الحاسمة التي قطعها على نفسه بالعمل وفق هذه الرؤية من خلال شن حرب لا هوادة فيها ضد الفساد والفاسدين وإتباع سياسة رشيدة من شأنها أن تقضي تدريجيا على الفقر من جهة أخرى خاصة أن تجربة ولد عبد العزيز خلال المرحلة الانتقالية التي سبقت الإنتخابات العامة مباشرة كانت تشفع له. وهو ما يسمح لنا بالقول استنادا إلى معطيات موضوعية جلية إن ولد عبد العزيز قد كسر لأول مرة قاعدة الناخبين الكبار عندما استطاع تخطي أعناق الرموز والزعامات التقليدية وسماسرة الأصوات رابطا صلاته بالمواطن العادي مسايرا خطواته في زحام الحياة اليومية ، وهو ما ينسجم مع جوهر الممارسة الديمقراطية القائمة على الإعلاء من شأن الفرد والإرادة الحرة بعد أن عملت التجارب الديمقراطية السابقة في بلادنا على تهميش الفرد وإخضاعه لإرادة كلية تختزله في الزعامات التقليدية وذوى النفوذ والثروة وهي دوائر ظل ولاؤها السياسي يتحدد تبعا لمعايير انتفاعية ومصالح آنية درجت الأنظمة السابقة على تأمينها لها مقابل ضمان هذا الولاء. ولئن كانت جهود رموز الفساد والمنتفعين من السمسرة قد انصبت في اتجاه الحيلولة دون نجاح ولد عبد العزيز في الانتخابات الرئاسية معتمدين على رصيد ضخم من الإمكانات المادية والإرث السياسي لحماية مصادر انتفاعهم وتأمين امتيازاتهم الهائلة فإن هذا المجهود قد ارتطم بإرادة شعبية استماتت في الدفاع عن تطلعاتها المشروعة إلى الخروج من القمقم الذي ظل يكتم أنفاسها عقودا طويلة ، وقد كان لها ما أرادت فبإرادتها الحرة ومقاومتها العصية على الإحتواء أمنت لولد عبد العزيز فوزا مستحقا بكرسي الرئاسة خلال الدور الأول، ولاشك أن هؤلاء الذين منحوا ثقتهم لرئيس الجمهورية هم من أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة المتطلعين إلى منقذ للبلد ، وقد وجدوا في شخص ولد عبد العزيز هذا المنقذ.

وهنا تسعفني الذاكرة بمقال كتبته صحيفة الشرق الأوسط غداة الإنتخابات الرئاسية العامة قالت فيه إن ولد عبد العزيز يرفع شعار رئيس الفقراء وإن استطلاعات الرأي تظهر التفافا فعليا للفقراء الذين يمثلون غالبية الشعب الموريتاني حول برنامجه الإنتخابي متسائلة في خاتمة المقال – وهذا هو بيت القصيد- عما إذا كان الفقراء يستطيعون حماية أصواتهم من الأغنياء؟ لقد أجاب الفقراء وبأوضح بيان عن السؤال وربما بشكل أذهل الصحيفة وأدهش المراقبين الذين كانوا يشاطرون المقال شكوكه في مدى قدرة المواطن العادي على الدفاع عن قناعاته السياسية حتى النهاية.

يتعلق الأمر إذا بميثاق شرف بموجبه يتعين على رئيس الجمهورية أن يسلك ويتصرف وفق مقتضيات البرنامج الإنتخابي الذي أهله لنيل ثقة غالبية المواطنين الموريتانيين ، وهو برنامج يستند إلى مبدأ التغيير البناء باعتباره هدفه ومبرر الإجراء التصحيحي الذي قاده.

لكن إحداث التغيير المطلوب وتحريك المسار سيكون بطبيعة الحال محل مجابهة من طرف القوى نفسها التي سبق أن حاولت بكل الوسائل كبح إرادة الناخب والتي ما زالت تكافح للتشويش على البرنامج الإصلاحي مجندة لذلك وسائل الدعاية والتضليل المختلفة خاصة أن التغيير الحقيقي والفعال ليس مجرد حجر عثرة نزيحه جانبا عن الطريق وإنما يتطلب مواجهة واقع عيني مستحكم ومراكز قوى ونفوذ وبنية تفرز آلياتها الخاصة بها لنفي الإيجاب الذي تقدمه في صورة السلب بغية التشبث بقواعدها، وتبعا لذلك يصبح التغيير البناء مشروعا إصلاحيا نهضويا يتأسس على مفاهيم مناسبة ويستند إلى رؤية استراتيجية ، فبقدر ما يكون هناك تطوير وتثوير مستمر للواقع وتجاوز لأوضاع غير مقبولة بقدر ما يكون هذا التثوير والتجاوز خاضعا لقواعد الرقابة الصارمة على نحو يستوعب طبقات الواقع ويمتص ردات الفعل والتأثيرات الجانبية المحتملة، وهو ما يتطلب بعد النظر ووضوح الرؤية والقدرة على التشخيص والمعالجة والتوقع كمعايير تجد ترجمتها في برنامج عمل يستجيب لأهداف التغيير ومراميه ويلتزم في الوقت ذاته بضمانات السلم الاجتماعي المبني على احترام القانون والمصلحة العامة ورفض التعايش مع أوضاع متخلفة وممارسات فاسدة، ولاشك أن إطلاق مثل هذا المسار يمثل تحديا صعبا نظرا لحجم التراكمات الناتجة عن أزيد من عقدين من الفساد والغبن الممنهج فضلا عن انتشار الشبكات ومراكز القوى والنفوذ كفلول تعمل كلما سنحت لها الفرصة على إعادة تنظيم صفوفها والدفاع عن المكاسب والإمتيازات التي حصلت عليها في ظل الأنظمة السابقة، ولا تألوا هذه القوى جهدا في تعبئة طاقاتها مستغلة المنابر التي يتيحها النظام الديمقراطي وانعدام الرقابة على وسائل الإعلام بشكل لا يخلوا من المغالطات والتضليل وضروب الدعاية الفجـة بغية إعادة البلد إلى المربع الأول أو التشويش على الأقل على المشروع السياسي القائم الذي يلبي لأول مرة المتطلبات الحقيقية للتنمية والنهوض عبر مقاربة تنطلق من التركيز على محاربة الفساد ونهب المال العام وإرساء حد معقول من العدالة الاجتماعية وضمان إقرار مبدأ سيادة القانون وترسيخ ثقافة سياسية تستمد معاييرها وقيمها من هذه المنطلقات والأسس ، إلا أن المضي في نهج مكافحة الفساد وإرساء ثقافة العدل والإنصاف يمثل خيارا استراتيجيا لا مجال للتراجع عنه ،وذلك لعدة اعتبارات يمكن أن نلخصها في عاملين اثنين أولهما كونه يمثل جوهر البرنامج الانتخابي الذي حظي بثقة غالبية الموريتانيين وهو برنامج للتطبيق لا للإستهلاك والدعاية الانتخابية كما صرح بذلك الرئيس نفسه وكما أثبتت الوقائع على الأرض ، وثانيا لأن أوضاع البلد لم تعد تحتمل مزيدا من إمهال الفاسدين والتسويف والمماطلة في مواجهة الظروف الصعبة والغبن الاجتماعي الجاثم على صدور المواطنين ، من هنا فإن مجابهة الفساد حتمية تمليها أكثر من ضرورة وهي امتحان حقيقي لمدى جدية صناع القرار في إنجاز القطيعة الموجودة مع عهود اللامبالاة وطي صفحة الدولة الراعية للفساد، ولا شك أن الخطوات الجريئة المتخذة في هذا الاتجاه تطمئننا إلى صدق الإرادة السياسية في التعامل مع هذا الموضوع الصعب على قاعدة الحزم والصرامة وطول النفس الذي تتطلبه معركة بهذا الحجم، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التحديات والتعقيدات التي يفرضها الإرث الضخم من المشكلات المتراكمة والثقافة السياسية القائمة على التملق والمحاباة والزبونية كسمات أنتجتها عقود من الفساد وغياب الإرادة السياسية وتداعي قيم المواطنة الحقة فضلا عن طابور من المنتفعين من هذه الأوضاع يصارع لكي لا يرى البلد وهو يخرج من النفق المظلم وينهض من كبوته ويتصالح مع ذاته لأسباب أعتقد أنها واضحة للجميع، غير أنها لا تقنع أحدا إذ أنه ليس من الإنصاف أن تكون راحة أقلية ورفاهيتها مرهونة باسمرار شقاء وتهميش الأكثرية من مواطنيهم.

وقد آن لهذه النزعة السادية عند من يرجفون ويجندون الأقلام ويمثلون دور الضحية أن تتوفق، فالشعب الموريتاني مصمم العزم على المضي قدما في طريق التغيير البناء والعدالة الاجتماعية وإرساء دولة القانون والحقوق بشكل فعلي وهو لن يقبل بالعودة إلى الوراء لكنه لن يثار ممن ساموه الهوان والعسف والحرمان طيلة عقود خلت، وإنما سيوقفهم عند هذا الحد ويقنعهم بما لا يدع مجالا للشك أن لا عودة إلى ما قبل لحظة المنعطف مثلما أقنعهم بلغة صناديق الاقتراع أن شعار : لاصوت يعلو على صوت المال السياسي في المعركة الانتخابية الذي طال ما راهنوا عليه قد ولى إلى غير رجعـة وأن قافلة التغيير البناء ستواصل سيرها دون أن تعبأ بهستيريا الباكين على الماضي القريب.

بقلم الأستــاذ :
محمد فال ولد محمد أطفـل

عودة للصفحة الرئيسية

الصفحة الرئيسية   |   أضفنا إلى مفضلتك   |   من نحن؟    |   اتصل بتا