أعلم أن الله تبارك وتعالى قد شرف الموظف العمومي بأن أوكل إليه تحمل جزء من الأمانة العظمى التي حملها الإنسان إذ ناط به جانبا من القيام بأمور المسلمين وتحقيق مصالحهم والذب عن بيضتهم والمساهمة في استقلالهم والرفع من شأنهم، سواء في ذلك الموظف السامي ومن دونه ومن دون ذلك.
وقد كان بعض السلف الصالح من الموظفين يقول : إني لأغدوا إلى مكتبي كل صباح وأعقد لذلك خمس نيات : النية الأولى أني أفي بالعقد الذي يربطني بالدولة امتثالا لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود والنية الثانية : نية طلب الرزق الحلال براتبي الذي أتقاضاه مقابل عملي، والنية الثالثة : هي أني أغني نفسي عن تكفف الناس وأحفظ كرامتي بذلك وطلب العز مأمور به شرعا ولذا يقال : لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه.
والنية الرابعة : خدمة الأمة الإسلامية والرفع من شأنها وتوطيد مكاسبها وتعزيز استقلالها، والنية الخامسة : إغاظة الكفار الذين يتربصون بها الدوائر ويسوؤهم أن يصلح من أمرها شيء قل أو كثر لتظل تابعة لهم لا غنى لها عنهم في أمر معاشها ودنياها وعصمة أمرها.
وهذا التشريف الذي حظي به الموظف العمومي هو في الحقيقة تكليف يقتضي منه سلوكا معينا وتقيدا بكثير من الأمور لا يطالب بها المواطن العادي، وإذا كان الأثر الشريف ورد في أن المسلمين يجب أن يكونوا في الناس كالشامة البيضاء في حسن السمت والهدى، فإن الموظفين العموميين يجب أن يكونوا كالشامة في تلك الشامة.
إن نواميس المروءة مغلظة في حق الموظفين فلا ينبغي لهم أن يتعاطوا ما يتعاطاه عامة الناس فيجب عليهم أن يتجنبوا كل ما من شأنه أن يمس من سمعتهم بالحق أو بالباطل فإن الألسنة إليهم منطلقة فيجب أن لا يعطوها الفرصة بتجنب مواقع الريب فإنه إذا قيل قول فقد قيل، فتركه بادئ الأمر أولى من الاعتذار عنه بعد وقوعه، لا سيما والبياض قليل الحمل للدنس وقد لا تنقى القبطية بماء جافيل إذا دنسها ودك الإشاعات.
ومما ينبغي للموظفين الاعتناء به حسن هندامهم فقديما قال حكماء يونان إن الظاهر عنوان الباطن، فإن الموظف الوسخ لابس الاطمار، نقب النعلين، قد لا يكون فيه خير إذا فتش عما في داخله، فلا كفاءة ولا أمانة. ومعلوم في الحضارة الإسلامية أن حسن الهندام هو أول مقومات المروءة فمن تحرر منه فلا يؤمن أن يتحرر من غيره من الصفات الحميدة كالصدق والأمانة وهذا هو السر في كون الإخلال بالمروءة من القوادح في الشهادة فمن لا يتحرج من القبيح عرفا فلا يتحرج من الحرام شرعا.
إن الموظف العمومي بقبوله الدخول في أسلاك الوظيفة يكون قد التزم بهذا الميثاق ووقع العقد الإذعاني الخاص به فلا يعذر بجهل شيء منه.
وقد رتب المشرع على الاخلال بهذا الميثاق عقوبات منها ما هو جزائي ومنها ما هو تأديبي ومنها ما هو أدبي بحت ونتائج كل ذلك تظهر في سير الحياة المهنية للموظف فمن أبطأ به عمله وسلوكه لم يسرع به شيء آخر أيا كان قدره.
والتقيد بهذا الميزان هو أول مؤشر يستدل به على صلاح الإدارة أو فسادها فكل إدارة لا تعتني بمسلكيات موظفيها ولا تحاسبهم فيها على كل صغيرة وكبيرة ولا تأخذها في ذلك هوادة ولا محاباة ولا تساهل هي إدارة لا يرجى منها خير وأمرها إلى تباب.
أما الإدارة التي يشعر فيها الموظف أنه ملحوظ بعين الناقد البصير وهو الإدارة منظور إليه باعتباره مكلفا مشرفا من طرف من كلفه وشرفه وهو الأمة، محكوم عليه بلسان الماحل المسموع وهو الرأي العام، فلا جرم أن هذه الإدارة جديرة بتحمل الأمانة وخليق بها أن تنهض بالشعب وينهض بها، تنهض بالشعب من قوقعة الخمول إلى فضاء الإشعاع وأغلال الذل إلى تيجان العز، ينهض بها بأن يبوئها المكانة السامقة في المجتمع ويملأ أفواهها درا وعبابها تمرا وبرا، فلا يطرف على قلبها خاطر رشوة ولا تعلق بها تهمة سوء ولا فساد. هكذا هكذا وإلا فلا لا.
* نقلاعن الوكالو الموريتانية للأنباء
*تصرف طفيف في العنوان